كيف تصبح الرياض مركزا ماليا؟ ( 2 من 2 )
استطاع قادة سنغافورة أن يجعلوا من بلادهم واحدة من أهم المراكز المالية المرموقة في آسيا والعالم. وقد كان لنفاذ بصيرة مؤسسها وباني نهضتها الحديثة لي كوان يو وقدرته الإدارية الفذة، ونظرته الاقتصادية الحكيمة، دور كبير في بلوغ هذا الهدف. وقد بنى السنغافوريون سمعتهم الدولية على قواعد الاستقامة والانضباط والكفاءة المهنية. كانت بداية نجاحهم في تأسيس ما عرف بسوق الدولار الآسيوية التي كانت نظيرا لسوق الدولار في أوروبا، ثم استطاعوا أن ينموا به ليصل حجمه في عام 1997م لنحو 500 مليار دولار.
كان الميدان حكرا عليهم في المنطقة في الفترة الأولى الممتدة بين عامي 1968 و1985. حيث استطاعوا جذب الأموال والمؤسسات المالية الدولية من خلال تبني بعض السياسات والحوافز الاقتصادية، مثل إلغاء ضريبة الدخل المتحصل من ودائع غير المقيمين، وإعفاء جميع ودائع الدولار الآسيوي من متطلبات السيولة القانونية والاحتياطي النظامي. وبحلول التسعينيات أصبحت سنغافورة رابع مركز مالي من حيث الحجم بعد لندن ونيويورك وطوكيو. ثم بدأت بعض الدول الأخرى في المنطقة منافستهم بتقديم حوافز ضريبية أكثر إغراء، لكن السنغافوريون استمروا في التركيز على ضمان سيادة القانون في بلدهم، واستقلال القضاء، واستقرار الحكومة وكفاءة أعضائها، الذين تبنوا على الدوام سياسات اقتصادية حصيفة مكنتهم من تحقيق فوائض سنوية في الموازنة الحكومية، ما جعل عملتهم قوية واقتصادهم مستقرا.
وكانت سلطتهم النقدية دقيقة ومنضبطة وصارمة في إصرارها على قبول المؤسسات المالية القوية ذات السمعة المرموقة. ولذلك فقد رفضت أكثر من مرة منح بنك الاعتماد والتجارة الدولي ترخيصا لممارسة الأعمال المصرفية. وبذلك تجنبت سنغافورة نتائج عمليات الاحتيال والخداع، التي مارسها بعض مسؤولي ذلك البنك، وأدت إلى خسائر ضخمة تكبدتها المصارف الأخرى التي تعاملت معه، حتى بلغ حجم مطالبات المودعين والدائنين له عند إغلاقه عام 1991 نحو 11 مليار دولار. كما كانت سلطات سنغافورة النقدية حازمة أيضا في رفض منح بنك بروناي الوطني ترخيصا مشابها للعلة نفسها. وبالفعل ففي عام 1986 أغلق هذا البنك بأمر صادر من سلطان بروناي لتجاوزات مالية ومصرفية خطيرة.
ولمواجهة المنافسة الدولية المتنامية شجعت السلطات النقدية في سنغافورة، بنوكها المحلية الأربعة الكبيرة على شراء المصارف المحلية الأصغر حجما (أو الاندماج معها) كي تصبح أكبر وأقوى. ونتيجة لذلك صنفت وكالة "جودى" الأمريكية المصارف السنغافورية الأربعة الكبرى ضمن أقوى وأفضل المصارف في العالم.
كان السنغافوريون يتعلمون من التجارب والمواقف العصيبة بسرعة، ويعدلون القوانين لتفادي تكرار الأزمات. فعدلوا في عام 1985 قانون السندات المالية الصناعية لضبط عمل شركات السمسرة ، بعد أزمة حصلت بين بعض المضاربين الماليزيين وشركات السمسرة العاملة في سنغافورة. وفي عام 1984 أنشأوا بورصة سنغافورة النقدية الدولية، ووسعت هذه البورصة تجارتها في مجال التعاملات الآجلة بالذهب لتشمل الصفقات المالية الآجلة. وقد رتبتها على غرار بورصة شيكاغو التجارية بنظامها المفتوح القائم على المزاد العلني. ثم وقعت مع بورصة شيكاغو اتفاقية للتعويض المتبادل بينهما، حيث مكنها من إبرام الصفقات التجارية على مدار الساعة. ثم بدأت في ولوج عقود آجلة باليورو/ دولار، كما أدرجت سلسلة من العقود الإقليمية شملت مؤشر عقود البورصة الآجلة في اليابان، وتايوان، وسنغافورة، وتايلاند، وهونج كونج، الأمر الذي عزز من سمعتها الدولية.
ومع نمو احتياطيات سنغافورة المالية، زادت مدخرات "صندوق التوفير المركزي"، وهو بمثابة صندوق تقاعدي، فعملت السلطات على تحسين طريقة استثمار هذه المدخرات، وأخذت تركز على برامج استثمار بعيد المدى بعوائد أفضل، من خلال الاستعانة بأفضل العقول والخبراء العالميين في هذا المجال. كان الهدف الأساسي هو استثمار هذه الأموال في أصول مالية ( أسهم وسندات) ونقدية (عملات دولية) مع الحرص على تخفيض المخاطر وحماية رأس المال حتى لو كانت العوائد منخفضة. وقد استطاعوا بالفعل بعد 15 عاما من عمل صندوق حكومة سنغافورة للاستثمار( صندوق سيادي)، تجاوز أداء المؤشرات الاستثمارية الدولية ذات الصلة، واستطاعت هذه الشركة ليس فقط الحفاظ على قيمة الأصول وإنما تحقيق أرباح عليها.
وفي أواخر التسعينيات أدرك "لي كوان يو" بعد مشُورات مع دهاقنة العمل المصرفي في العالم، أن مستقبل الصناعة المصرفية العالمية يتطلب أن تتجاوز بنوك سنغافورة توجهها المحلي واهتمامها بالداخل، وأن تنفتح على الخبرات الخارجية وتقلل من سياسة الحماية التي تمتعت بها بنوكها لفترة طويلة. لأن المهم ليس التشدد في حماية المؤسسات والمستثمرين الأفراد بقدر ما هو حماية النظام نفسه الذي يعملون من خلاله.
عندما نستعرض مثل هذه التجارب الناجحة ليس القصد تقليدها حذو القذة بالقذة. فمن حيث نوع الصفقات والمنتجات وشكل الممارسات والمؤسسات، لا شك أننا سنكون مختلفين. فقد أصبح لنا نظامنا المصرفي المنضبط بحكام شرعية مهيمنة. وهذه الضوابط تجعل أهدافنا ومنتجاتنا ونوع مؤسساتنا المالية مختلفة عنهم. لكننا بالتأكيد نستطيع أن نتأمل جوانب التجربة من حيث وضوح الرؤية، وقوة العزيمة، وسلامة المنهج، وصحة اتجاهاتها العامة، وضوابطها الصارمة التي تكسب أي مركز مالي سمعة دولية مرموقة. ما أكثر الفرص الثمينة المغرية في اقتصادنا، التي تنتظر ذكاء الاستغلال وبراعة التصرف.