التحكيم في منازعات عقود الأشغال العامة

تناولت في المقال السابق المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام المنافسات والمشتريات الحكومية الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م58) وتاريخ 4/9/1427هـ، وتساءلت فيه عن مدى إمكانية اللجوء إلى وسيلة أخرى مثل التحكيم لتسوية هذا النوع من المنازعات.
والحقيقة أن التحكيم أضحى من أهم الوسائل التي يتم اللجوء إليها لتسوية المنازعات الناشئة عن العقود الدولية لما يحققه من ميزات عديدة أهمها سرعة الإجراءات وبساطتها، كما أنه يتم عادة من خلال اختيار كل طرف من أطراف العقد مُحكماً، ويختار المحكمان محكماً ثالثاً ليكون محكماً مرجحاً surarbitre، ويغلب أن يكون هؤلاء المحكمون من ذوي الخبرة والتخصص في مجال المنازعة المطلوب تسويتها. ولقد أصدرت الدول قوانين تحدد مجالات التحكيم وتنظم إجراءات اللجوء إليه، والغالب أنها تسري على المنازعات التجارية. ومع ذلك فإن بعض قوانين التحكيم الحديثة تتضمن نصوصاً تشير إلى أن أحكامها لا تقتصر فقط على التحكيم التجاري، وإنما تمتد أيضاً إلى التحكيم في العقود الإدارية الداخلية والعقود الإدارية ذات الطابع الدولي.
ولم يتضمن نظام التحكيم السعودي أية إشارة إلى أن أحكامه تسري على المنازعات الناشئة عن العقود الإدارية، مما يثير التساؤل عن مدى إمكانية خضوع هذا النوع من المنازعات للتحكيم، خاصة بعد انضمام السعودية لمنظمة التجارة الدولية، وإصدارها أنظمة جديدة، مثل نظام الاستثمار الأجنبي الذي يسمح للشركات الأجنبية بأن تستثمر في مشاريع سواء بالمشاركة مع شركات ومؤسسات سعودية أو منفردة، حيث يتم التعاقد بينها وبين الجهات الحكومية بمقتضى عقود إدارية ذات طابع دولي.
ولقد أثار موضوع التحكيم في العقود الإدارية الداخلية جدلاً واسعاً بين شراح القانون، فذهب رأي إلى رفض الفكرة تماماً، بحجة أن اللجوء إلى التحكيم في تلك العقود التي تكون الدولة طرفاً فيها يتعارض مع سيادة الدولة بما يتضمنه من سلب القضاء الاختصاص بنظر المنازعات؛ كما أنه يُجيز لهيئة التحكيم استبعاد تطبيق القانون الوطني على النزاع وتطبيق قواعد قانونية أخرى. بل لقد قيل إن اللجوء إلى التحكيم في هذه المنازعات فيه اعتداء على اختصاص القضاء الإداري، الذي يُعد صاحب الاختصاص الأصيل بلا منازع في الفصل فيها طبقاً لنصوص قانونية صريحة؛ حيث إن الحكمة من منحه هذا الاختصاص المحجوز هي أن العقود الإدارية لها طبيعة خاصة وأحكام متميزة عن غيرها من العقود المدنية والتجارية؛ فهي تتضمن شروطاً استثنائية، مثل الشروط المتعلقة بالقوة القاهرة والظروف الاستثنائية، والشروط التي تعطي لجهة الإدارة صلاحيات واسعة لا يتمتع بها الطرف الآخر المتعاقد معها، تخرج عن القاعدة الأساسية المستقرة في مجال العقود المدنية والتجارية، وهي قاعدة المساواة بين طرفي العقد في الحقوق والالتزامات، ولهذا تسري على العقود الإدارية قواعد قانونية خاصة تراعى فيها هذه الطبيعة الخاصة للعقد الإداري، ومن ثم يُصبح القضاء الإداري هو الأقدر من غيره من الجهات القضائية أو غير القضائية على الفصل في منازعات العقود الإدارية، وذلك بتطبيقه قواعد القانون الإداري، خاصة أن غالبية تلك القواعد قضائية أنشأها القضاء الإداري في مختلف الدول وراعى فيها المرونة المتطلبة في العقود الإدارية.
ويضيف أنصار هذا الرأي حجة أخرى مفادها أن التحكيم في العقود الإدارية يتعارض مع النظام العام؛ لأن هيئة التحكيم تطبق على النزاع القواعد القانونية التي تراها ملائمة، حتى لو كانت لا تراعي قاعدة أساسية من قواعد النظام العام، وهي قاعدة تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ومع ذلك فإن الرأي الراجح يفضل الأخذ بالتحكيم وسيلة لتسوية منازعات العقود الإدارية، وحجته في ذلك أن القوانين والأنظمة التي تحدد اختصاص القضاء الإداري (مثل ديوان المظالم) بنظر منازعات العقود الإدارية لا تتضمن نصوصاً صريحة تحظر اللجوء إلى التحكيم في تلك المنازعات؛ كما أن نصوص قوانين وأنظمة التحكيم تحدد مجالات التحكيم المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، ومن ثم فالتحكيم مثل الصلح لا يتضمن مساساً باختصاص المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع.
ويفضل فريق ثالث قصر الأخذ بالتحكيم على منازعات العقود الإدارية ذات الطابع الدولي دون العقود الإدارية الداخلية.
والحقيقة أن تطور التجارة الدولية في الوقت الحاضر والانفتاح الاقتصادي والانضمام لمنظمة التجارة الدولية جعلت التحكيم الوسيلة الملائمة لتسوية المنازعات التجارية والإدارية؛ كما أن قوانين التحكيم الحديثة تتضمن نصوصاً تنص صراحة على أن أحكامها تسري على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص، أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع؛ إلا أن هذه القوانين تشترط أن يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، ولا يجوز التفويض في ذلك.
والحقيقة أن نظام التحكيم السعودي لم يمنع اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية، إذ تنص المادة الأولى منه على أنه: "يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين قائم"؛ فقد وردت كلمة "نزاع" مطلقة وغير محددة بنوع معين من المنازعات ومن ثم فإنها تشمل أي نوع من المنازعات بما فيها منازعات العقود الإدارية. ثم أجازت المادة (8) من اللائحة التنفيذية لهذا النظام لجوء الجهات الحكومية للتحكيم بشرط موافقة رئيس مجلس الوزراء على ذلك بقرار مسبب، مع إخطار مجلس الوزراء بالأحكام التي تصدر في المنازعة. وبذلك تكون اللائحة قد أخذت بالاتجاه الحديث نحو خضوع منازعات العقود الإدارية للتحكيم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي