عالم بطاطس .. بطاطس .. بطاطس
أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار رقم (60/191) لعام 2005، اعتماد عام 2008 العام الدولي للبطاطس International Year of the Poatato (IYP) وأعطى هذا القرار المسؤولية لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) FAO قيادة الاحتفالات بهذا العام بالتعاون مع الحكومات المعنية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومراكز الأبحاث الزراعية الدولية والمنظمات الأهلية.. ويؤكد القرار أن محصول البطاطس مقوم غذائي أساسي لسكان العالم وأنه يلعب دورا مهما في تحقيق الأمن الغذائي وتخفيف حدة الفقر في العالم، وأن هناك ضرورة لتكثيف التوعية العامة بأهمية البطاطس وإبراز دورها في القضاء على الجوع لجزء كبير من البشرية.
واليوم ونحن على أعتاب العام الجديد 2008 نرى أنها مناسبة سانحة للقيام برحلة إلى عالم البطاطس لنوضح أهميتها الغذائية والاقتصادية على الصعيدين الإنساني والعالمي!
البطاطس، محصول درني من الخضراوات اسمه العلمي Solanum Tuberosum عرف قديما في جبال الأنديز.. وتمت زراعته الأولى في دولة بيرو في أمريكا اللاتينية منذ أكثر من ستة آلاف عام مضت.. في هذا الصدد سيتم عقد منتدى دولي في هذه الدولة الأم في آذار (مارس) 2008 تحت شعار "البطاطس تتحدى الفقراء في الألفية الجديدة"، ومن العجيب أن يظل هذا المحصول حكرا على دول أمريكا اللاتينية حتى بداية القرن السادس عشر، حيث تم نقل شتلاته إلى أوروبا عبر البحارة الإسبان وزراعته في جزر الكناري عام 1573، وفي غضون أقل من قرن من الزمان تمت زراعته في إيرلندا وروسيا ودول شرق أوروبا وتم أيضا انتشار زراعته بسرعة في المستعمرات الأوروبية في آسيا وإفريقيا وأستراليا عبر التجار البرتغاليين والهولنديين وغيرهم، وتعد البطاطس في الوقت الراهن الغذاء الرئيسي للسكان في دول العالم كافة دون استثناء.
وتأخذ البطاطس مسميات عديدة تعكس مدى أهميتها الغذائية للإنسان فهي في نظر الفرنسيين فاكهة الأرض Ground Fruits وفي نظر الألمان والسويديين تفاح الأرض Ground Apple وكمثرى الأرض Earth pear على التوالي، ويرى باقي الأوروبيين أنها مجرد محصول الأرض Ground أما الآسيويون فلهم نظرة مختلفة حيث يرى المواطن الصيني أنها لوبية الأرض Earth Bean أما المواطن الهندي فيعتبر البطاطس مجرد درنة قلقاس غريبة Foreign Taro أو alu ويرى مستوطنو جبال كولومبيا في أمريكا اللاتينية أنها كمأ الأرض Earth Truffle. ومهما كانت المسميات واللغة المستخدمة فإن الاسم الشائع هو البطاطس التي لا يمكن إغفال أهميتها الغذائية والمعروفة بمكوناتها الهيدروكربونية العالية والتي تحتوي على النشا المقاوم لإنزيمات الهضم في المعدة وتطيل فترة الشعور بالشبع وتنعدم الدهون تماما في مكوناتها، ناهيك عن أنها غنية بالعديد من الفيتامينات ـ خاصة فيتامينات (B1,B2,B6,C) إضافة إلى مجموعة الأملاح والمعادن (البوتاسيوم).. كما أنها تتميز بانخفاض معدل السكريات Glycemic Index مما يجعلها وسيلة مناسبة للرجيم (الحمية).
ومن المفيد التنويه أن لهذا المكون الغذائي أكثر من وسيلة للطهي والتحضير ترضي جميع الأعمار والأجناس فهي تؤكل مشوية، أو مهروسة، أو مقلية، أو مطبوخة، أو مقطعة، أو مطحونة، أو على هيئة رقائق Chips أو مكعبات أو أي شكل آخر.. كما يمكن أن تؤكل كغذاء بارد أو ساخن.
ومن عجائب عالم البطاطس إمكانية زراعتها ـ سواء من الدرنات أو البذور ـ في كافة الظروف البيئية والمناخية.. حيث تتم زراعتها في وديان الأنهار كما في مصر وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية أو في سهول البحار كما في إيران واليابان والصين، أو في أعالي الجبال كما في المغرب والجزائر (جبال أطلس) أو في الأرجنتين وبيرو والمكسيك (جبال الأنديز).. كما تتم زراعتها في المناطق الباردة في أوروبا والمناطق شبه الصحراوية في إفريقيا وآسيا وأستراليا.
وإذا كان هناك إجماع على أهمية القيمة الغذائية للبطاطس، فماذا عن أهميتها الاقتصادية؟
لا شك أن البطاطس من المحاصيل الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية، حيث تصنف بكونها أكبر محصول زراعي من الخضراوات ورابع أكبر محصول زراعي بعد محاصيل الحبوب الثلاثة الأساسية (الأرز، القمح، والذرة) ويبلغ الإنتاج العالمي ـ حسب تقديرات عام 2006 ـ ما يزيد على 314 مليون طن في مساحة تقدر بنحو 20 مليون هكتار أي 5 في المائة تقريبا من المساحة المزروعة لجميع المحاصيل عالميا، أما على النطاق الإقليمي والوطني فإن الأرقام المعلنة عن الإنتاج والتصدير والاستهلاك المأخوذة من التقارير الدولية فهي توضح مجموعة من الحقائق من أبرزها:
ـ الصين هي الدولة الأولى الأكبر إنتاجا، حيث تنتج بمفردها 70 مليون طن من البطاطس تليها روسيا ثم الهند وبإنتاج يصل إلى 39 مليون طن، 24 مليون طن على التوالي، وهذا يعني أن إجمالي الدول الثلاث الأكبر إنتاجا للبطاطس 133 مليون طن أي 42 في المائة من الإنتاج العالمي، ومع ذلك فإن هذه الكميات يتم استهلاكها محليا ولا يوجد فائض قابل للتصدير.
ـ تُعد الولايات المتحدة الأمريكية رابع دول العالم من ناحية إنتاج محصول البطاطس، حيث يبلغ الإنتاج نحو 20 مليون طن، وفيما لا تزيد المساحة المحصولية على 450 ألف هكتار، وبالتالي فهي تقع على قمة دول العالم من حيث الإنتاجية والتي تقدر بنحو 44 طنا للهكتار الواحد.
ينظر إلى محصول البطاطس في الدول الغربية باعتباره غذاء رخيصا غنيا بالطاقة وبديلا استراتيجيا للحبوب، ولقد تم تكثيف استزراعها في العديد من الدول بغرض الاستهلاك أو التصدير ـ خاصة بعد أن ثبتت أهميتها في الحد من أزمة المجاعة خلال فترة الحرب العالمية الثانية ـ وعلى رأس هذه الدول ألمانيا التي تصدر نحو ستة ملايين طن من النشا والمنتجات المصنعة والتقاوي، وفرنسا التي تصدر نحو مليوني طن من البطاطس الطازجة، والمملكة المتحدة التي تصدر 1.5 مليون طن من المنتجات المصنعة من البطاطس، هولندا التي تصدر 700 ألف طن من بذور البطاطس.. وفي هذا المجال نشير إلى أن هناك بعض التجارب تتم في بعض الدول الأوروبية (رومانيا كمثال) لتحويل الفائض من البطاطس إلى وقود حيوي Ethanol Fuel.
على الرغم من كون أمريكا اللاتينية هي أصل محصول البطاطس، إلا أن إجمالي الإنتاج لدولها الثماني مجتمعة لا يتجاوز 16 مليون طن أي 5 في المائة فقط من الإنتاج العالمي، وجميعها دول مستهلكة للإنتاج الطازج وفي حدود 50 كيلو جراما للفرد سنويا. ومن الملاحظ أن هذه الدول مستوردة للمنتجات المصنعة والمجمدة ـ خاصة من الولايات المتحدة وكندا ـ وكذلك لبذور البطاطس.
تتميز زراعة البطاطس في الدول الإفريقية بصورة عامة بانخفاض واضح في الإنتاجية يتراوح ما بين 23 طنا/ هكتار في جنوب إفريقيا إلى 3 أطنان/ هكتار في كينيا وبمتوسط عام في حدود 11 طنا/ هكتار، إضافة إلى معدل انخفاض واضح في الاستهلاك في حدود 14 كيلو جراما / فرد/ سنة، وذلك نظرا لاعتماد غالبية هذه الدول على الحبوب كمحصول غذائي بديل.
يبلغ إجمالي المساحة المزروعة لمحصول البطاطس في مجموعة الدول العربية نحو 420 ألف هكتار تنتج ما يعدل تسعة ملايين طن، ومن الدول المنتجة لها مصر والجزائر والمغرب. وتُعد مصر على قمة الدول العربية المنتجة والمصدرة لمحصول البطاطس، حيث يتم إنتاج نحو 2.5 مليون طن سنويا يصدر منها نحو مليون طن كبطاطس طازجة ومجمدة لدول أوروبية.. أما بالنسبة لغالبية الدول العربية فهي دول مستوردة للمنتجات المصنعة والمجمدة والتقاوي، مع العلم أن معدل الاستهلاك للفرد العربي في حدود 40 كيلو جراما سنويا. وهذا الرقم في كل الحالات يزيد على معدل استهلاك الفرد على المستوى العالمي والذي يقدر في الوقت الراهن بنحو 25 كيلو جراما سنويا.
والخلاصة، أن هناك العديد من الشواهد تؤكد زيادة الطلب على محصول البطاطس بمعدل 4 في المائة سنويا في الدول النامية والتي ينظر إليها باعتبارها الكنز المفقود الذي يحل مشكلة الجوع في المرحلة المقبلة بعد النقص الحاد من الغذاء العالمي من الحبوب.. ومن ثم فإن هناك ضرورة ملحة لتوجيه البحوث العلمية لزيادة إنتاجية محصول البطاطس في تلك الدول حتى يمكن التصدي لظاهرة الفقر فيها.
وبعد هذه الرحلة الطويلة في عالم البطاطس ترجع بنا الذاكرة ـ خاصة لمن هو من جيلي من الشيوخ ـ إلى الرواية الخالدة لتانيا روز "إنه عالم مجنون مجنون مجنون" والتي تم تحويلها إلى فيلم للممثل الكبير إسبنسر تراسي في السبعينيات من القرن الماضي.. ويبدو لنا أن الفيلم القادم مع بداية العام الجديد سيكون بلا شك عنوانه "إنه عالم بطاطس بطاطس بطاطس".