لا الكلام من فضة .. ولا السكوت من ذهب
يقول المثل إن "من المعضلات توضيح الواضحات", فهل الصمت من تلك الواضحات التي ليست بحاجه للتنظير والشرح والتفصيل؟ أم أن في الصمت عمقا وغموضا وتعقيدا أتعب عقول الفلاسفة السابقين واللاحقين وجعلهم في حيرة من أنفسهم وهم يريدون الإمساك بمعناه الحقيقي؟ فمنهم من آثر الصمت وفضل عدم الخوض فيه، ومنهم من أصر على استنطاقه واجتهد في فهم معانيه وأبعاده, فالصمت عند البعض هو امتناع عن الكلام في مقابل الكلام, وعند البعض الآخر فإن الصمت هو من الكلام، وإن لم نسمعه ولكننا نحس به ونتأثر بمعانيه. وهناك من يرى في الصمت ضعفا وانسحابا واستسلاما، وهناك مَن يراه عكس ذلك, فالصمت عنده أكثر قوة من الكلام وأصدق تعبيرا عن الاستعداد للمواجهة وليس الانسحاب. والصمت في الإطار الديني قد يعني الخلوة مع الرب أو مع النفس، فهو تعطيل للسان وتحريك للفكر والتأمل والتدبر والتعمق في فهم الأشياء. والصمت في حدود المعرفة قد يعني غياب الدليل والبرهان، وقد يعني الانتظار للوصول إلى الحقائق. أما في علم الاتصال فالصمت قد يعني الاقتناع أو قد يعني عدم الرغبة في مواصلة الحوار مع آخر لا يجيد فن الحوار. أما في السياسة فالصمت قد يعني الهروب من قول الحقيقة أو الخوف من مكاشفة الجمهور بحقيقة الأمور، وقد يعني اللامبالاة وعدم الاهتمام بالرأي العام. أما في الاقتصاد والتجارة, فالصمت قد يعني عدم الإفصاح عن فرص يراد الاستحواذ عليها قبل الآخرين، وقد يعني التستر على مخالفات وتجاوزات وأمور غير مشروعة قانونيا وأخلاقيا. وفي الإعلام قد يكون الصمت هو تغييب الحقائق أو أنه وسيلة لاستثارة رغبة الجمهور في معرفة الحقيقة. وحتى في الفن فإن للصمت دورا مهما, فإن اللوحة الصامتة تثير الفضول أكثر من اللوحة التي تضج بالألوان والأصوات, ولعل أروع من أجاد توظيف الصمت هو المخرج السينمائي الكبير الفريد هيتشكوك.
ولكن ماذا عن الثقافة؟ وهل للصمت أبعاد ثقافية أم أنه من المشتركات الإنسانية التي لا دخل للثقافة بها؟ وهل اختلف المثقفون حياله وحاروا في تصنيفه؟ فهل الصمت عند أمة أو شعب هو أكثر إيجابية من الكلام أم أنها ترى وعلى خلاف غيرها في أن في الكلام ممارسة للحياة وفي الصمت تعطيل لها؟ فهل عندما يطلب الصمت من الصغير في حضور الكبير هو من باب التأدب أم أنهم يرون في هذا الأمر تعطيلا للحوار والانفتاح بين الأجيال؟ وهل عندهم هذا النوع من الصمت هو مما يجعل الشعوب أبطأ من غيرها في التغيير وأقلها قبولا للجديد؟ أم أنهم يرون في الصمت على أنه هو الذي يعطيهم فرصة لاستيعاب من سبقهم وفهم من جاء من قبلهم؟ وهل عندما تفضل الثقافة للمرأة أن تصمت في مواجهة غضب الرجل هو تأكيد على أنها مخلوق ضعيف، وأن للرجل الحق في ضربها وتعذيبها وربما طردها وتطليقها إن أصرت هي على أن تخلع ثوب الصمت وتحاجا أباها أو أخاها أو زوجها بحقوقها, وهل المرأة التي رأت أن من حقها الكلام ومخاطبة الناس للدفاع عن حقوقها كان عليها أن تصمت لأن في كلامها خروج عن طبيعتها وتجاوزا لحدودها؟ لا بل إن الصمت هو ستر لها وإن في كلامها هتكا لحرمتها, فهل هذه الثقافة ثقافة خاطئة وهي ثقافة لا تنظر إلى المرأة إلا من زاوية أنها مخلوق تابع للرجل, أم أن الخطأ هو بأخذ ثقافة ترى عكس ذلك لأن المرأة كلها عورة وكلامها جزء منها، وبالتالي فالصمت هو من الحجب التي يجب أن تتستر به؟
وماذا إذا أرادت الثقافة أن نصمت إذا اختلفنا في الرأي؟ فالمطلوب هو أن نختلف بصمت وان ندفن اجتهاداتنا المتباينة، حتى وإن كانت في المسائل الفرعية في مقبرة الصمت, وكل هذا بداعي الخوف علينا من الوقوع في الفتنة والنزاع. فهل هذه الثقافة التي تبالغ في خوفها من الخلاف في الرأي، وتبرر بهذا الخوف حماسها في الدعوة إلى الصمت والتأكيد عليه في أدبياتها وتفسر لنا دفاعها وإيمانها، الذي لا يتزعزع بغلق باب الاجتهاد ونبذ كل من يحاول فتحه هي الثقافة التي تحفظ للإنسان شخصيته وللمجتمع هويته. وهل هذه الثقافة التي لا ترتاح لكثرة المتكلمين ويزعجها حتى الهمس؟ لأنها تخاف من الأصوات أن تدق طبول آذاننا فتستيقظ عقولنا وعندها نرى ما لم نره من قبل، ونسمع ما لم نسمعه، ونحس بما لم نكن نحس به هي الثقافة الأفضل. وهل هذه الثقافة هي حقا ثقافة حية؟ وهل هي ثقافة حقا تريد الوعي لمجتمعها والتفاعل مع غيرها من الثقافات؟ أم أنها من الثقافات الخانقة والقاتلة للوعي في مجتمعها؟ وهناك مَن يقول الويل الويل لمن يصمت، لأنه عندما يصمت المجتمع فمن الطبيعي أن يتأخر في علومه ومعارفه لأن السؤال هو نصف الكلام، ومَن لا يسأل لا يتعلم.
وهل الصمت هو من أبواب الشر التي يدخل منها الفساد إلى المجتمع؟ فالموظف الذي يتعود على الصمت فإن فيه تشجيعا لرئيسه أن يسرق وهو مطمئن، لأن مستقبل ذلك الموظف وسلامته هو في صمته. وحتى الصحافي الذي يتعلم فن الصمت قبل أن يمارس مهنته فهو لا ينتظر منه أن يكون عونا لمجتمعه في كشف المخبوء والمستور عنه من الفساد وانتهاك الحقوق والمخالفات. وحتى المسؤول قد يخاف من كثرة الكلام ويفضل أن يكون صامتا أو شبه صامت، لأنه يعرف ويعرف أنه لا يستطيع أن يقول كل ما يعرف، وبالتالي فالصمت أحسن والسكوت له أسلم. فهل الثقافة التي تدعو إلى الصمت هي مَن يتحمل مسؤولية الفساد في المجتمع لأن في الكلام جرأة على مواجهة المفسدين وفيه شجاعة قد تخيف هؤلاء الفاسدين وترهبهم مما قد يمنعهم من ارتكاب أفعالهم؟
وحتى رجال الدين، فالبعض يرى أن المتكلم منهم خير من الساكت, فالمتكلم منهم يدفع بالناس إلى التدين في حياتهم على خلاف الساكت الذي لا يرى ضرورة إلى الكلام، لأن الدين واضح. وهناك مَن يرى العكس ويرى في سكوت رجال الدين وقارا لهم، ومزيدا من القداسة لشخوصهم, ففي سكوتهم غموض والناس يتعلقون بالغامض والمبهم. وهناك مَن يرى أن كثرة مشكلاتنا مردها كثرة الفتاوى وتناقض بعضها مع البعض الآخر. فهؤلاء يقولون إن الفتنة اليوم مشتعلة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ولن تخمد هذه الفتنة ولن ينتهي القتال بينهم إلا عندما يصمت بعض أصحاب الفتاوى عندهم ويكفون عن تأجيج مشاعر المسلمين ضد بعضهم. ويرد عليهم آخرون بأن أزمتنا هي في صمت رجال الدين عندنا, فصغارهم يفتون لأن الأكبر والأعلم منهم قد آثر السكوت, فلو تكلم العالم لسكت المتعلم. وعند هؤلاء فإن سكوت رجال الدين هو الذي أدى بالدين أن يختطف من قبل المتطرفين، وأن تختلط على الناس معرفة الحق من الباطل, بل إن صمتهم قد شجع من دونهم أو مَن لا يقول بقولهم أن يدعي القول نيابة عنهم.
وهناك مَن يحمل الصمت مسؤولية الكثير من أمراضنا البدنية, فالصمت لا يعني عدم وجود الكلام في داخلنا ولكنه كلام محبوس تحتقن به غددنا وتثخن به دماؤنا وتترقرق به عظامنا وتتلف به أعصابنا, فالضغط والسكر وأمراض القلب والاكتئاب كلها قد تصيبنا لكثرة ما نأكل ولقلة ما نتكلم.
فهل أصبنا في كلامنا هذا؟ وهل إثارتنا لهذا الموضوع كانت في محلها أم كان الأجدر بنا أن نصمت ولا نتحدث عن الصمت ونؤمن بما قالوا إنه إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب؟