أنت تعرف بتكلم مين؟!

نحن في الخليج نترجم السؤال أعلاه بكلمات من قبيل: (أنت .. الظاهر .. ما تعرف مع مين تتكلم؟!) أو (أنت تدري من قدامك؟) وغيرهما من الاستعراضات الخيلائية، التي لم تكن مألوفة في السابق ولا هي من بضاعة ثقافتنا الاجتماعية، لكنها جاءت بعد دوار نشوة الطفرة النفطية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي كما أسهمت السينما المصرية بإسعافنا بهذه (العنطزة).
أنت تسير في شوارع قاهرة المعز فتسمع أحدهم يصرخ في وجه الآخر: (أنت بتعرف بتكلم مين؟) فيرد عليه الآخر "بفتاكة" المصريين وبديهيتهم وخفة ظلهم، حتى في طيش سهام الغضب قائلاً: "حكون بكلم مين يعني .. سيادة الريس مسلاً!!" وغالباً لا يملك الطرفان بعد ذلك سوى الابتسام ثم الطبطبة على الظهور مع أصوات من هنا وهناك: معليش .. معليش.
إن ذلك السؤال العذب الفذ الذي لخصه أهلنا في أرض الكنانة بعبارة: (أنت بتعرف بتكلم مين؟!) هو نتاج ثقافة طبقية، برجوازية، أرستقراطية، أو قل ثقافة باشوية في الأساس، ومع ذلك فأنت تسمعها يقولها الزبال للزبال، الأسطى للأسطى، الحانوتي للحانوتي، العطشجي للعطشجي، الحاتي للحاتي، الكمساري للكمساري، المكوجي للمكوجي، الأفندي للأفندي، البيك للبيك، الباشا للباشا، كما يقولها الطبيب لزميله الطبيب، المهندس للمهندس، التمرجي للتمرجي، ووكيل الوزارة لوكيل الوزارة، والبيه البواب للبيه البواب والعوالم للعوالم ... إلخ لكنه سؤال استطاعت الفهلوة الشعبية المصرية تنسيم انتفاخه حتى فقد خطره الذي كان فصار مجرد كلام في الهواء من النوع الذي اصطلح إخواننا المصريون على وصفه بأنه (كلام فارغ)، (لا يودي ولا يجيب!!).
فيما نحن في الخليج، أحفاد عبس وذبيان، داحس والغبراء والبسوس يبدو أننا "وآخدينها جد!!" يتسم رد فعلنا بمنطق الصرامة، نعلق شفرات السيوف على أعناق بعضنا البعض بنفخة زهو وبنخوة مستفزة لأمر لا يستحق هذا الانتخاء، حتى يخيل إليك وأنت تسمع أحدنا يصرخ في وجه الآخر (أعرف أول أنت تتحدث مع مين؟!) أنه يعيد صياغة بيت جدنا الشاعر:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم وإذا كان هذا السؤال المغرور ينتهي بين إخواننا المصريين بانفجار الضحك، فهو عندنا، مع الأسف، ينتهي إلى انفجار ملاسنات غليظة وإهانات مقيتة قد تمتد الأيدي معها لعراك يقهقه له الشيطان.
فهل يحدث لنا ذلك لأننا صحراويون، جارحون كالصقور كما يقول صلاح عبد الصبور وأننا إلى حدة الطباع أميل؟ أم لأن قيمنا وأعرافنا القروية الريفية البلداتية ضمرت وتآكلت بفعل التحولات التنموية المادية التي نسيت في غمرة البناء والإنجاز تأثيث الروح الاجتماعية بقيم تربوية قادرة على الاتساق مع التغير الكبير في أنماط حياتنا ومستوى معيشتنا؟
أياً كان السبب فالأمر سيان، طالما نحن فعلا مجتمع مشدود الأعصاب، سريع العطب، نستفز لأدنى كلمة أو تصرف فنرى فيهما عظائم الأمور ونأخذها على أنها إهانة مقصودة فيما الأمر في غالب الأحوال لا يعبر سوى عن قلة ذوق أو انخفاض في مستوى الوعي أو جاهلية صرفة.
طبعاً .. لست هنا في مقام الوعظ والنصح والإرشاد، فيما ينبغي ومالا ينبغي بل ليست هي مما يفيد في هذه الحالة فهذا المظهر الحاد في ردة فعلنا، لا سبيل لتأهيله وإلباسه رداء الدماثة أو حضارية التعامل إلا من خلال مهمة شاقة طويلة الأمد، لها صفة الاستمرار عبر سياستنا التعليمية التربوية في كل مواقع العلم والمعرفة وعبر الإعلاء من قيمة القراءة ونشرها بين الجميع.. عندها قد نتهادن ليس في هذه المسألة فحسب، بل فيما هو أهم وأجدى مما لخصه الرائد لطفي السيد في مقولته الشهيرة: (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية)!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي