أما وقد أعلنت موازنة الدولة..!
أما وقد أعلنت موازنة الدولة وأصبحت مع موازنات السنوات القليلة الماضية، تكشف، عاما بعد آخر عن اعتمادات مالية قياسية وأرقام تاريخية غير مسبوقة، فقد غدا مهما بالنظر لنوع التحديات الاقتصادية التي يفرضها نمو عدد السكان، أن نطمئن على مدى نجاح هذه الموازنات في بلوغ الأهداف الاقتصادية التي يصبو إليها المجتمع ويتطلع لها المواطنون.
إن وعي الناس اليوم تطور وتطلعاتهم تبدلت، فلم يعد يهمهم كثيرا ضخامة الأرقام بقدر ما يهمهم تأثير هذه الاعتمادات في نهاية المطاف في مستوى معاشهم. إن ارتفاع أسعار النفط أو ضخامة الاعتمادات المالية، لم يعودا يعينان عندهم شيئا، طالما تدهور في الجهة الأخرى مستوى معاشهم وتآكلت القيمة الحقيقية لدخولهم. الاعتمادات والمشاريع التي لا تولد فرص عمل جديدة للمواطنين، وإنما تستفيد منها الشركات والأيدي العاملة الأجنبية، وتلك التي لا تسهم في حل استراتيجي دائم للاختناقات المتأزمة في قطاعات الإسكان والتعليم والصحة وتطوير المهارات والكوادر البشرية، لن تلقى منهم بالا.
علينا الآن الانتقال من مرحلة لغة الأرقام الكلية المدمجة ولغة الخطاب العام إلى لغة أكثر شفافية وأدق في المحاسبة والمراجعة. لا نريد لاقتصادنا بعد نحو أربعة عقود وثمان خطط تنمية، وسنوات طويلة من الموازنات الحكومية الطموحة أن يكون عاجزا عن بلوغ ما نجحت في بلوغه دول أخرى كانت لها التحديات نفسها، لكنها انتقلت خلال الفترة الزمنية نفسها من أسر التخلف إلى مرحلة التأسيس والانطلاق الاقتصادي الطموح، بفضل امتلاكها رؤى اقتصادية واضحة، وعزائم ماضية، ورغبات صادقة. استراتيجية التنمية في بلادنا بحاجة ماسة حقيقة لإعادة نظر ودراسة.
نحن اليوم في حاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى، لمراجعة صادقة وجادة لآلية عمل أجهزتنا الحكومية، وطبيعة البيئة التي تعمل من خلالها، ونوع التشريعات والقوانين الحاكمة لها، وكذلك شكل الإجراءات الإدارية المنظمة لعملها. لم تعد هذه المراجعة ترفا تنظيميا، بل أضحت ضرورة تحتمها طبيعة تحديات المرحلة التي نعيشها. ونحن نأمل جميعنا ألا تحول فترة الطفرة الراهنة دون الاهتمام بهذه المراجعة، أو أن تصرف عزائمنا عن أهمية تطوير جهازنا الحكومي، حتى لا نصحو في يوم وقد اكتشفنا مزيدا من هدر الموارد وضياع الفرص النادرة التي ربما لا تتكرر كل حين.
ولكل ذلك، سيكون من السداد والتوفيق، ونحن نعيش عصر التطوير والإصلاح، أن نؤسس لتقليد جديد يرافق الإعلان السنوي عن الموازنات الحكومية الجديدة، يوضح ليس فقط إن كانت الاعتمادات المالية لمختلف المشاريع قد تم صرفها، وإنما أيضا ما إن كانت قد صرفت بالكفاءة اللازمة لتحقيق أهدافها.
لقد أصبح بالإمكان اليوم من الناحية الاقتصادية والفنية قياس ذلك بمعايير رقمية تبين درجة تحقيق أهداف الإنفاق الحكومي، سواء تعلق الأمر بمدى مساهمة هذا الإنفاق في زيادة معدل النمو الاقتصادي، أو تحسين مستوى معيشة المواطنين، أو تنويع مصادر الدخل، أو تخفيض نسب التضخم والبطالة، أو سواها من الأهداف الاقتصادية الكلية. إن الخطط الاقتصادية التي تنشد على مدى عقود هدف تنويع مصادر الدخل، دون أن تضع له رقما محددا قابلا للقياس خلال فترة زمنية معينة، لا يمكن أن تقود لتحقيق هدف ولا بلوغ إرب!
إن أكثر ما يساعدنا على حسن توجيه جهودنا وسداد وجهة نضالنا في معركة التنمية الاقتصادية، ألا يكون التخطيط ولا يبقى التنفيذ مبتدئا من الأجهزة الحكومية ومنتهيا إليها. لا بد اليوم من مشاركات جادة سابقة ولاحقة للسلطتين التشريعية والقضائية لتكون سندا قويا للسلطة التنفيذية. فالسلطة التنفيذية المتمثلة في الأجهزة الحكومية المختلفة، تتكون من بشر وهؤلاء يعتريهم ما يعترى البشر من أخطاء، وأحيانا لا يمكنهم الانشغال اليومي بوظائفهم عن معرفة وجهتهم وإدراك خط سيرهم، ومن ثم لا بد لهم من مؤسسات مجتمع مدني تساندهم وتراقب أعمالهم لتدلهم على الأخطاء وتمنع عنهم الانحرافات قبل استفحالها. وعلى حد علمي، فإن التجارب الأولية للمجالس البلدية، على سبيل المثال، كانت مبشرة غاية البشارة. فما علمته من الصديق الحبيب والزميل الرقيق الدكتور المهندس طارق فدعق رئيس المجلس البلدي لمحافظة جدة ومن زملائه الأكارم، أن جهودهم كانت سندا قويا لجهود الإدارة الحالية لبلدية جدة، والمقام لا يتسع للتدليل على ذلك بأمثلة وآيات.
إن كل الدلائل والمؤشرات تدل على أن بلادنا مقدمة على فترة وفرة موارد، وكلنا يأمل أن نستفيد من هذه الفرص التاريخية لنؤسس لأنفسنا وحياتنا منهجا سليما يقودنا لبلوغ أهدافنا واقتناص الفرص الذهبية التي تمر بنا. إن بلادنا تتوافر، بفضل وكرم من الله تعالى، على موارد هائلة وفرص اقتصادية مذهلة، يمكن ـ بإذن الله ـ متى توافر لدينا حسن الإدارة وصدق النوايا وقوة العزائم، أن نبلغ في سنوات معدودة أكثر مما بلغه غيرنا. وليس في الأمر أدنى مبالغة، ذلك أن التغيير هو الدلالة الثابتة المؤكدة في تاريخ البشرية، فلا شيء يبقى على حاله، وطوبي لمجتمع آتاه الله الحكمة وألهم أهله حسن الاعتبار وذكاء استيعاب سنن الله في كونه. إن كل مجتمع يحصد نتيجة عمله، وبقدر توافق هذا العمل مع هذه السنن الكونية ومسايرته إياها، ينال الناس ثمار ما قدموا.
إن من نعم الله تعالى على هذا الجيل أن أكرمهم بهذا الملك الصالح التقي النقي، الذي أجمعت القلوب على محبته وشهد الناس على صدقه وتعففه وشدة إخلاصه، والناس لا تجتمع على خطأ، وألسنتهم أقلام حق. فالله نسأل أن يمده وولي عهده بتوفيقه، ليقود مسيرة البلاد نحو بر الأمان وعز المقام، إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.