استراتيجية "أوبك" بحاجة إلى مراجعة

[email protected]

اختتمت في الرياض أمس قمة "أوبك" الثالثة في وقت وصلت فيه أسعار النفط الخام إلى معدلات تاريخية غير مسبوقة، بسبب تخوف الأسواق من عدم قدرة المنتجين على مواجهة الطلب العالمي المتزايد على النفط، ورغم وصول أسعار النفط الخام إلى هذه المستويات المرتفعة، فإن معظم التقديرات ما زالت تتوقع نمو الطلب في العام المقبل بما يزيد على 1.5 مليون برميل يوميا. استراتيجية "أوبك"، كما تبدو من تصريحات مسؤوليها النفطيين، تقوم على أساس أن لا مبرر لقلق العالم من حدوث نقص في الإمدادات مستقبلا، وأن عدم وضوح الرؤية المستقبلية للسوق النفطية لا يتعلق بالإمدادات وحجمها، كما يعتقد المستهلكون والمضاربون، وإنما يتعلق بصعوبة تحديد حجم الطلب المستقبلي على النفط، الذي تتسبب فيه سياسات الدول المستهلكة الهادفة إلى الحد من الانبعاث الحراري وحماية البيئة وتطوير بدائل النفط، ما رفع من مخاطر استثمارات دول "أوبك" المكلفة جدا لزيادة طاقاتها الإنتاجية. أي أن استراتيجية "أوبك" تقوم على نقل مشكلة عدم وضوح الرؤية حول مستقبل السوق النفطية من العرض وتوافر الإمدادات إلى الطلب وتوافر الأسواق، وأي مشكلة تواجهها "أوبك" مستقبلا في تزويد الأسواق بحاجتها من النفط ستكون ناتجة فقط عن عدم قدرة المنظمة على وضع تقدير دقيق لحجم الطلب المستقبلي وليس بسبب نمو كبير في الطلب لا يمكن لها مواجهته مهما بذلت من جهود لزيادة طاقة أعضائها الإنتاجية.
هذه الاستراتيجية لا تخدم في الواقع مصلحة دول "أوبك" لا في المدى القصير ولا في المدى الطويل. ففي المدى القصير، تُحمل "أوبك" نفسها بذلك مسؤولية الارتفاع الحالي في أسعار النفط الخام، لرفضها زيادة حصص أعضائها الإنتاجية بحجة عدم قناعتها بوجود نقص في المعروض النفطي، ما يعني ضمنيا أن المنظمة قادرة على زيادة إنتاجها لتهدئة الأسواق لو رأت مبررا لذلك، وعدم قيامها بذلك يجعل اللوم يوجه لها في التسبب في ارتفاع الأسعار. بينما الواقع أن دول "أوبك" غير مقيدة على الإطلاق بحصص الإنتاج وإنما بطاقاتها الإنتاجية، والإنتاج الفعلي لدول المنظمة الخاضعة لنظام الحصص يزيد حاليا بنحو مليون برميل يوميا على حصصها الإنتاجية، ولم يترتب عن قرار "أوبك" الأخير بزيادة حصصها الإنتاجية بمقدار 500 ألف برميل أي إنتاج إضافي يذكر. ما يؤكد أن "أوبك" في حاجة إلى أن تكون أكثر واقعية في حديثها عن قدرتها على تأمين كميات إضافية حتى لا يوجه إليها الاتهام بالتسبب في ارتفاع أسعار النفط الخام من خلال سياسات تقييد الإنتاج. في المدى الطويل، هذه الاستراتيجية تضر أيضا بمصالح دول "أوبك" من خلال تحميلها مسؤولية مواصلة أسعار النفط ارتفاعها، حيث سيفسر أي ارتفاع مستقبلي في الأسعار على أنه نتيجة حتمية لتقصير "أوبك" في توجيه الاستثمارات اللازمة لتطوير طاقاتها الإنتاجية، ما جعلها غير قادرة على مواكبة النمو في الطلب العالمي على النفط وتسبب في ارتفاع الأسعار بحدة.
لذا فاستراتيجية "أوبك" الحالية تحمل المنظمة، دون أدنى مبرر، مسؤوليات يجب ألا تتحملها وليست حتى قادرة عليها، في ظل الواقع الجديد لسوق النفط العالمية، فكل المؤشرات تدل على أن العالم لن يكون قادرا على الحد من نهمه المتزايد على النفط، وأن كل جهود تطوير بدائل النفط لن تكون قادرة على الحد من معدلات النمو في الطلب على النفط، وأن الشكوك حول قدرة الدول المنتجة على مجاراة النمو في الطلب أقوى وأكثر تأكيدا من الشكوك حول مستويات الطلب على النفط خلال العقود المقبلة. واختيار "أوبك" تضخيم شكوك ليست في محلها حول معدلات نمو الطلب على النفط، والتقليل من أهمية شكوك مؤكدة حول قدرة المنتجين على تأمين كميات إضافية تواكب مستويات الطلب المرتفعة المتوقعة، لا يخدم المنظمة ويسهم في تشويه صورتها وإظهار أي ارتفاع في أسعار النفط الخام مستقبلا على أنه نتيجة حتمية لتقصير "أوبك" في القيام بمسؤولياتها الدولية، في ظل تأكيدها أنها تملك الاحتياطيات والإمكانات التي تجعلها قادرة على رفع إنتاجها لأي مستويات يصل إليها الطلب العالمي على النفط.
ما يجعل استراتيجية "أوبك" الحالية في حاجة إلى إعادة نظر، بتبنيها استراتيجية أكثر واقعية تتماشى مع أساسيات العرض والطلب المستقبلي على النفط، تتعهد من خلالها ببذل كل جهد ممكن لتأمين أكبر قدر من الإمدادات النفطية، لكن دون أن تحمل نفسها مسؤولية ضمان تأمين كل ما يود العالم الحصول عليه من النفط. ما يخلي "أوبك" تماما من مسؤولية ارتفاع أسعار النفط الخام مستقبلا، ويجعل هذا الارتفاع في الأسعار نتيجة حتمية لمواصلة المستهلكين نهمهم النفطي وعدم تبنيهم سياسات فاعلة تحد من معدلات نمو الطلب، باعتباره آلية السوق الوحيدة المتاحة لضمان توازن العرض و الطلب في ظل قيود العرض النفطي الناتجة عن استهلاك مخزون العالم من النفط، وتقادم حقول النفط الرئيسية في العالم وتراجع إنتاجيتها، ومحدودية الاكتشافات النفطية الجديدة. هذه الاستراتيجية، في رأيي، تخدم دول "أوبك" بصورة أفضل بكثير من استراتيجيتها الحالية، كونها تحمل المستهلكين لا المنتجين مسؤولية ارتفاع أسعار النفط الخام، باعتباره نتيجة طبيعية متوقعه لأي نمو مبالغ فيه في الطلب لا بسبب تقصير "أوبك" عن القيام بمسؤوليتها، ويجعل العالم أكثر واقعية في توقعاته لما يمكن لـ "أوبك" القيام به لتأمين حاجة العالم من النفط مستقبلا، وأكثر تقبلا لأي ارتفاع في أسعار النفط مهما بدا هذا الارتفاع للبعض كبيرا أو مبالغا فيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي