قرض لكل فقير
في مثل هذا الشهر من العام الماضي 2006م، تم منح الاقتصادي الكبير البروفيسور محمد يونس من دولة بنجلاديش المسلمة جائزة نوبل للسلام مناصفة مع بنك جرامين، ويأتي ذلك تتويجاً للمجهودات التي بذلت من قبل البروفيسور محمد يونس والبنك الذي يرأس مجلس إدارته منذ ربع قرن في مجال الإقراض دونما ضمانات مادية للفقراء وبقروض متناهية الصغر Microcredit. ويأتي ذلك المفهوم على عكس ما هو متعارف عليه في النظم الاقتصادية التقليدية التي تعتمد إجراء الإقراض للأثرياء فقط الذين يملكون ضمانات كافية للسداد.
وتعتمد منهجية بنك جرامين للقروض متناهية الصغر للفقراء على مجموعة من المحاور الفكرية التي تتفق مع الشريعة الإسلامية، حيث تعد القرض أو الائتمان حقا أساسيا من حقوق الإنسان ولا يجوز إقصاء الفقراء من هذا الحق، فالقرض المقدم يسهم في التوظيف الذاتي للفقراء لكي يساعدوا أنفسهم وهو بذلك يُعد المدخل الرئيسي للتخفيف عن بشاعة كابوس الفقر وإزاحته من حياة أسرهم ومن ثم دمج هذا القطاع المهمش في المجتمع.
لقد تم تأسيس بنك جرامين على أنه مشروع اقتصادي ذو أهداف اجتماعية أو بمعنى آخر أن تقدم معاملاته المصرفية على أساس تدوير المال واستثماره، ومع ذلك فإن البنك يقدم خدمات اجتماعية مباشرة لعملائه الفقراء لتحسين أحوالهم المعيشية. ومن أجل تحقيق هذه المعادلة الصعبة فقد وضع البنك مجموعة من المحددات الاقتصادية وأقر بعضاً من الصيغ الاجتماعية نذكر منها:
- قيام التنظيم المؤسسي للبنك على أساس "هرمي" قاعدته وحدات بنائية صغيرة قوامها نحو خمسة أفراد فقط تسمى "المجموعة المحلية" Local Group متقاربي المستوى والفكر ويجمعهم الثقة والضمان المتبادل يتم اختيارهم بمحض إرادتهم الشخصية ودون تدخل من البنك حيث يقومون بانتخاب رئيس مسؤول للمجموعة يتولى عرض طلبات القروض على البنك ومسؤوليته السداد والاحتفاظ بدفاتر الحسابات وصندوق ادخار المجموعة. وعلى المستوى الثاني للتنظيم يتكون المركز من عدد يراوح بين 6 و8 مجموعات وهو حلقة الاتصال الرئيسية مع إدارة البنك يأتي بعد ذلك الفرع وهو الحلقة الثالثة من الهرم التي تتولى الإشراف على ما يقارب ستين مركزاً وهي وحدة التشغيل الرئيسية للبنك وتكون مسؤولة مباشرة أمام مكتب المنطقة .. أما المركز الرئيسي للبنك على قمة الهرم ففي (دكا) عاصمة بنجلاديش حيث مجلس الإدارة وغالبية أعضائه من المقترضين المعدمين – غالبيتهم من النساء – مع أعضاء ممثلين للحكومة للقيام بمهام الإدارة وشؤون البنك، كما أن هناك لجنة عليا للسياسات تتبعها مجموعة لجان متخصصة لإدارة سياسة البنك.
- تشجيع الأعضاء الفقراء من المجموعات المحلية على الادخار حيث يقدم البنك أوعية ادخارية Group Fund على أساس أن يسدد العضو (2) تكا يومياً نحو ثلاثة سنتات أمريكية بصورة إجبارية .. وفي المقابل فإن البنك يقدم تسهيلات كثيرة للمقترض حيث يتم التسديد أسبوعياً واستعادة المال المقترض بضمان الجماعة المحلية. وهناك تنوع في القروض حسب ظروف المقترض فقد تكون للاستثمار الفردي أو لدعم الزراعة الموسمية أو للأسرة أو للإسكان وتأمين استقرار الأسرة، وهي تراوح ما بين 10 و30 ألف تكا (نحو 150 و450 دولارا) ومن المفيد أن نذكر أن البنك يعطي نسبة 8.5 في المائة فائدة سنوية على جميع أشكال الادخار، كما يسمح بشراء سهم واحد لكل عضو يدخر مائة تكا ويصبح مساهماً في البنك .. وفي الوقت الحالي يمتلك الفقراء 92 في المائة من أسهم البنك والباقي حصة الحكومة.
- يعمل البنك على استثمار رأس المال من خلال مستويات وأوعية استثمارية متنوعة لضمان التدوير وتحقيق أرباح تعود على المقترضين الفقراء وتسهم أيضاً في عمليات التمويل وفتح آفاق واسعة لخدمة الفقراء اجتماعياً .. وجميعها مؤسسات خاصة غير حكومية تعمل على تخفيض حدة الفقر وتقدم برامج للرعاية الصحية ورفع مستوى المزارع القائمة، وإحياء الصناعات التقليدية (صناعة المنسوجات اليدوية كمثال) وإنتاج وتسويق المزارع السمكية صناعياً وتجارياً وإمداد الريف بالطاقة الكهربائية بالإضافة إلى تقديم خدمات مباشرة لتعليم الأبناء ورفاهية الأطفال والرعاية المركزة في حالات الكوارث وغيرها، وهذه المؤسسات تهدف إلى خلق فرص عمل للفقراء في الريف كما أنها في الوقت ذاته لها تأثير مباشر في خدمة الاقتصاد البنغالي.
- إبراز دور النساء الفقيرات كقوة عمل وكفئة مستهدفة لها أولوية أولى في عملية الإقراض المتناهي الصغر وتقوم فلسفة البنك على أساس أن النساء الفقيرات معرضات للقهر الاجتماعي وهن الأكثر تحملاً لعبء مشكلة الفقر في الأسرة والقيام بالكثير من الأعمال التي يمكن أن تدر دخلاً، إضافة إلى أن المرأة الفقيرة هي الأكثر حماسة للخروج من دائرة الفقر وهي الأقدر على الادخار لتأمين مستقبل الأسرة خاصة وأنها تضع في سلم أولوياتها الحياتية الاهتمام بالأطفال.
لقد أثبتت تجربة بنك الفقراء نجاحاً كبيراً على المستوى الوطني في بنجلاديش وكان لها صدى مسموع على المستوى العالمي. حيث تشير التقارير الصادرة أخيرا من البنك أن الإجمالي التراكمي للقروض الموزعة منذ تأسيس البنك وحتى 2006م بلغت نحو 5.8 بليون دولار استفاد منها ما يزيد عن 6.6 مليون مقترض فقير في 72 ألف قرية مع العلم بأن أكثرهم من النساء97 في المائة وأن نسبة السداد تقدر بـ 99 في المائة وهي نسبة عالية بجميع المقاييس المصرفية. أما على المستوى العالمي فقد تم مناقشة مكثفة لتلك التجربة في قمة واشنطن عام 1997م وفي حضور مؤسس البنك البروفيسور محمد يونس واتفق الجميع على تدشين حملة عالمية "للقروض المتناهية الصغر" ولمدة تسع سنوات للوصول إلى مساعدة 100 مليون فقير كخطوة أولى للقضاء على الفقر يتولى عملية إقراضهم مؤسسات ومنظمات غير حكومية لا تسعى للكسب وتخطط الحملة لمساعدة 175 مليونا من أفراد الأسر الفقيرة حتى 2015م وهو ما يتفق تماماً مع أهداف التنمية الألفية .. ونشير في المجال أيضاً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار عام 2005م "العام العالمي للقروض المتناهية الصغر".
وفي الختام يتبادر إلى الذهن سؤال: كيف يمكن تكرار التجربة في الدول العربية خاصة تلك التي تعاني الفقر؟
من واقع مراجعة تقرير التنمية البشرية يتضح أن هناك ثلاثة تصنيفات للدول العربية بالنسبة لهذه الظاهرة:
- دول عربية ذات تنمية بشرية مرتفعة ولا يزيد دليل الفقر البشري بها عن 5 في المائة وهي تتضمن دول مجلس التعاون الخليجي.
- دول عربية ذات تنمية بشرية متوسطة، حيث يتراوح دليل الفقر البشري ما بين 7 في المائة إلى 35 في المائة وتضم غالبية الدول العربية في أرض الشام والشمال الإفريقي.
- دول عربية ذات تنمية بشرية منخفضة يكون دليل الفقر البشري فيها دون 35 في المائة وقد يصل إلى 50 في المائة وهي الدول العربية الإفريقية جنوب الصحراء واليمن.
وبكلام آخر فإن إجمالي عدد الفقراء، حسب التصنيف الدولي، في مجموعة الدول العربية في حدود 70 مليون نسمة أي ما يعادل 23 في المائة من إجمالي السكان وهي نسبة عالية جداً لا تتناسب مع الإمكانات المادية والاقتصادية التي تملكها هذه الدول مجتمعة .. ومن الواضح أن هذه الفئة تعاني العديد من المشكلات الاقتصادية وتدنيا في مستوى المعيشة بصورة واضحة وهي تعتمد بصورة أو بأخرى على دعم الدولة أو ما يتم الحصول عليه من الجمعيات الأهلية والأثرياء على هيئة هبات أو زكاة، مما يؤكد ضرورة العمل على تكرار التجربة بصورة عملية وتفعيلها والنظر بجدية إلى موضوع القروض المتناهية الصغر دون ضمانات للفقراء من أجل زيادة دخل الفقير وفتح فرص عمل ذاتية له وتعويده على الادخار واستثمار هذا المدخر والعائد منه لصالحه؛ والأمر يحتاج إلى وجود (عشرين) محمد يونس عربي الجنسية حتى يتمكن كل فقير في هذه المجموعة العربية من الحصول على قرض متناهي الصغر.