جامعة الملك عبد الله والانعكاس التنموي المكاني
لا نختلف أبداً أننا في المملكة في أمس الحاجة إلى العديد من المدخلات التنموية التي حُرمنا منها خلال الطفرة المالية الأولى لعدة أسباب ليس هذا وقتها أو مجالها، واليوم ونحن ندخل مرحلة تنموية جديدة تحتاج منا في العمل التنموي إلى فهم معنى ومفهوم التنمية أولاً ثم التركيز على تحقيق مفهوم التنمية المكانية المتوازنة والمستدامة.
لقد كان حفل وضع حجر الأساس لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية KAUST يوما مختلفا في تاريخ المملكة التنموي في مجال العلم والبحث وجاءت الندوة المصاحبة لهذا الحفل للتوضح للجميع مهام ودور جامعة الملك عبد الله في رسم رؤية تعليمية عملية تنموية مختلفة ستنعكس ـ إن شاء الله ـ بشكل إيجابي على الأبعاد الاقتصادية والصناعية والتنموية في المملكة وتؤسس لمرحلة تنموية مختلفة من خلال استقطاب المزيد من مراكز البحث والتعاون مع المراكز الحالية في المملكة ودفعها نحو المنافسة الشريفة لخدمة المملكة أولاً والعالم ثانية ثم أنها ستدفع إلى إنشاء أو دعم القائم من الشركات المرتبطة بمجالات البحث وهو ما يعكس تجارب الجامعات ومراكز الأبحاث الأخرى التي استفادت من وجودها في مواقع تنموية ساعدت على استقطاب شركات للاستفادة من أبحاثها، كما أن تبرع خادم الحرمين الشريفين بوقف لدعم الجامعة وأبحاثها سيؤسس لثقافة خيرية وقضية لدعم الجامعات ومراكز الأبحاث بدلاً من تركيز تبرعاتنا وأوقافنا، في مجالات محددة جداً، وهذا التوجه والتوجيه الخيّر من خادم الحرمين الشريفين سيكون ـ بإذن الله ـ قدوة للجميع للتبرع وجعل أوقاف لصالح التنمية البحثية وهو ما سيساعد على جعل المملكة في مصاف الدول المتقدمة ويعكس النظرة الإيجابية لدور الإسلام والدول الإسلامية في خدمة العلم والعلماء.
بالعودة إلى عنوان المقال وهو العلاقة بين جامعة الملك عبد الله والتنمية المكانية وهو السؤال الذي بقي في ذهني بعد انتهاء المناسبة فكما نعرف جميعاً أن جامعة بحجم جامعة الملك عبد الله ستترك أثرا إيجابيا على الموقع المحدد لها وما يحيط به من تجمعات سكانية وربما ينعكس بشكل سلبي على المدن الأخرى الواقعة ضمن الإطار المحيط بالموقع مثل مدينة جدة، كما أن إنشاء الجامعة في الموقع المقترح والمرتبط بإنشاء مدينة الملك عبد الله الاقتصادية يتطلب سرعة العمل على تنفيذ المدينة حتى لا تجد الجامعة نفسها في معزل عن المحيط الاجتماعي الطبيعي للسكان وتتحول إلى ما يشبه القاعدة العسكرية وهو ما سيؤثر سلباً في قدرة الجامعة على استقطاب العلماء والطلاب وتوطين الاستثمارات المرتبطة بأبحاثها.
مدينة جدة من جهة أخرى، ربما وهو الأقرب إلى الواقع ستعاني خللا تنمويا نتيجة اختيار موقع الجامعة والمدينة نظراً لعدم وجود دراسة تحقق التكامل التنموي والوظيفي بين مدينتي الملك عبد الله الاقتصادية وجدة، حيث تحققان مثل هذا التكامل التنموي المطلوب ولا تتحول مدينة جدة إلى مفهوم المدينة القديمة المتخلفة التي تعاني الاكتظاظ السكاني والتخلف الإداري ونقص المرافق والخدمات وتصبح مدينة الملك عبد الله هي القبلة للجيل الجديد المتعلم الطموح، ولعل تجارب الدول الأخرى في مثل هذا المجال لتؤكد ذلك، كما أن تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع تعكس من هذه الفجوة التنموية والاجتماعية بين المدينتين القديمتين والمدينتين الجديدتين، حيث أثرت المدن الجديدة سلباً في مستوى الخدمات والأنظمة العمرانية وأسلوب تنفيذ المرافق في مدينتي الجبيل وينبع القديمة وأصبحت المدينتان الجديدتان تتمتعان بأنظمة عمرانية متطورة وصادقة وأثرت المدينتان القديمتان في الاستقرار السكاني في المدينتين الجديدتين، حيث عانتا الاستقرار السكاني بهما وحرص بعض أو أكثر سكان المدينتين الجديدتين في السكن في المدن الأساسية وكان الأمر يتطلب تحقيق التكامل التنموي والإداري والاجتماعي بين المدن المذكورة بحيث تندمج كل مدينة مع جارتها الجديدة بأسلوب إداري متزن وتستفيد كل منهما من مميزات الأخرى.
دعونا نستفيد من هذه المرحلة التنموية المهمة ونعمل على تفعيل ما تم اعتماده من دراسات استراتيجية وتخطيطية تدعو إلى أهمية الأخذ بمفهوم التنمية المتوازنة والمستدامة ولعل على قمة تلك الدراسات "الاستراتيجية العمرانية الوطنية" التي تم اعتمادها بقرار من مجلس الوزراء في عام 1421هـ وما احتوته من مخرجات وتوصيات حددت المدن المطلوب دعمها تنموياً على المستوى الوطني والإقليمي والمحلي بما يضمن إيجاد شبكة تنموية متوازنة بين مناطق المملكة وداخل كل منطقة إضافة إلى ما أخذت به الاستراتيجية من توصيات تنفيذية تحتاج إلى كل الجهود الخيرة لوضعها موضع التنفيذ وما اعتمد في هذا الصدد في الخطة الخمسية الثامنة والخروج بنا من مفهوم كلما جاءت أمةٌ لعنت أختها أو كلما جاء مسؤول قال سآتي بما لم يأتِ به الأوائلُ.
وأخيراً بلدنا السعودية في أمس الحاجة اليوم إلى الاستفادة من كل جهد عملي وكل عقل بناء لدعم موقفها ومكانتها العالمية انطلاقاً من اعتزازنا بسعوديتنا وعروبتنا وإسلامنا وطموحنا نحو العالمية ولعل في كلمات خادم الحرمين الشريفين التي جاءت من قلب صادق خلال مراحل فكرة إنشاء الجامعة والمشاريع المشابهة خير عون لكل محب لهذا البلد للعمل الجاد والصادق نحو هذه العالمية المطلوبة.
وقفة تأمل:
" اجتمع الحكماءُ على أن أوضع الناس من عمل على الرهبة، وعلى أن من عاتب ووبخ فقد استوفى حقه، وأن خير الناس من نفع الناس وأذل الناس من تاه عن الناس، وأعلم الناس أقلهم تعجباً من أحداث الدهر، وأكثر الناس غماً من طلب رتبة فوق رتبته، وأعقل الناس من أطاع العقلاء، وأضعف الناس من لا يحمل الغنى ولا يحفظ السر، وأقوى الناس من غلب الهوى وتذكر الآخرة".