سبل كبح جماح تضخم الأسعار
في طفرة السبعينيات عاني الناس من الغلاء، لكنهم كانوا يجدون بسهولة سبلا لتحسين دخولهم، فقد كانت جميع الطرق مفتوحة أمام الأفراد والمؤسسات للعمل والإنتاج دون قيود تذكر تقريبا. لكن الحال اختلف في الطفرة الحالية، فالناس خرجت من نكبة سوق الأسهم بخسائر فادحة قضت على مدخراتهم، في واحدة من أكثر المآسي الاقتصادية التي سيسطرها تاريخنا الاقتصادي، لتجد أمامها مصيبة أخرى تمثلت في تدهور مستوى معيشتهم مع ارتفاع الأسعار وتراجع دخولهم الحقيقة، على الرغم من زيادة دخلنا الوطني زيادة تاريخية غير مسبوقة. وقد كان لتأخرنا في تبني السياسات الاقتصادية الملائمة، وتقليلنا من شأن التحديات الاقتصادية التي تواجه مجتمعنا، دور في ما وصلنا إليه.
كان عدد السكان يزيد بمعدلات عالية, الأمر الذي ولد ضغوطا هائلة من جانب الطلب على مختلف السلع والخدمات بما فيها الطلب على الخدمات الحكومية الأساسية (كالخدمات التعليمية والصحية وخدمات المرافق العامة والخدمات البلدية) في الوقت الذي لم يتطور العرض بما يناسب الزيادة السكانية. كما كان لانتشار البطالة وتناميها خلال السنوات الماضية، وتوقف الحكومة تقريبا عن فتح فرص عمل جديدة سواء في القطاع المدني أو العسكري، دور في تعميق المشكلات. ومن ناحية أخرى، كان للرسوم العالية التي فرضت في سنوات تراجع عوائد النفط، وللقيود الحكومية التي فرضت على ممارسة بعض الأنشطة، خاصة بالنسبة للأفراد والمؤسسات المحلية الصغيرة والمتوسطة، فضلا عن استمرار جمود الأنظمة الحكومية وعدم تطور أداء الجهاز الحكومي بما يناسب التطورات العميقة في ظروف الاقتصاد المحلي والعالمي، دور مؤثر في تخلف أوضاعنا الاقتصادية وفي زيادة التكاليف، الأمر الذي حد من توسع العرض وضيق من سبل العيش أمام الناس. وقد تضافرت هذه العوامل لتجعل عامة الناس يشعرون بثقل وطأة ارتفاع الأسعار في هذه الفترة أكثر من فترة التضخم السابقة.
وكنت قد حددت في سلسلة مقالاتي الماضية التي خصصتها لمناقشة مشكلة التضخم، أسباب الغلاء في مجموعتين من العوامل الداخلية والخارجية. وبقي أن أعرض تصوراتي للإجراءات الاقتصادية التي يمكن لنا تبنيها للتخفيف من حدة ارتفاع الأسعار. لا شك أن قدرتنا على مواجهة العوامل الخارجية لارتفاع الأسعار، كارتفاع تكاليف المصدرين وأجور الشحن ونحوها، هي قدرة محدودة. والشيء الوحيد المتاح لنا للتخفيف من حدة التضخم الخارجي المستورد هو تعديل سعر صرف الريال. فقد فقدت عملتنا نحوا من 30 في المائة من قيمتها، حتى أصبحت مقومة بأقل من قيمته الحقيقية تجاه باقي العملات الدولية. وكنت قد كتبت سلسلة مقالات خلال السنة والنصف الماضية دعوت فيها إلى ضرورة البدء في التفكير الجاد في إعادة تعديل سعر صرف الريال، فضلا عن ضرورة البدء في تنويع احتياطياتنا بعيدا عن الدولار المتراجع. وقلت إنه على الرغم من تسليمنا ببعض الإيجابيات للإبقاء على سعر صرف الريال خاصة بالنسبة للحكومة ولبعض المصدرين السعوديين ولجاذبية اقتصادنا للمستثمرين الأجانب، إلا أننا يجب أن نقدر حقيقة الثمن الفادح الذي يتحمله عامة الناس نتيجة لتدهور سعر صرف الريال. ومن ثم ينبغي على سياساتنا الاقتصادية ألا تتوقف عند بعض المزايا المتحققة لبعض جهات المجتمع، وتتجاهل السلبيات على قطاعات وفئات أخرى مهمة في المجتمع. وطالما أن اقتصادنا لا يقوم على صناعات تحويلية إنتاجية، وإنما هو اقتصاد ريعي في الدرجة الأولى يعتمد على استخراج وتصدير مادة أولية، حيث يشكل الدخل الريعي ما نسبته نحو 70 في المائة من ناتجنا المحلي الإجمالي، فلا بد عندئذ من أخذ مصالح كل فئات المجتمع عند تقرير نوع سياسة سعر الصرف المناسبة، خاصة أن السلبيات التي يمكن أن تصيب الاقتصاد من رفع سعر الصرف بالنسبة للأطراف المذكورة آنفا، ستقابلها الإيجابيات التي ولدتها أسعار النفط المرتفعة غير المسبوقة. ولهذا أقول إنه إذا ظل لدى بعض المسؤولين الاقتصاديين قناعة بفائدة الاستمرار بربط ريالنا بالدولار وعدم رفع سعر صرفه، فلا أقل من تبني إجراءات تعويضية تحمي الناس من الضريبة القاسية التي يدفعونها نتيجة زيادة أسعار النفط وارتفاع تكاليف السلع المستوردة، وانكشاف اقتصادنا الريعي تجاه الاقتصادات المصدرة، واتساع الفارق بين قيمة الريال الحالية وقيمته الحقيقة. فعند رسم السياسات الاقتصادية لا بد من أخذ دواعي العدالة الاجتماعية في الاعتبار جنبا إلى جنب مع دواعي الكفاءة الاقتصادية.
أما فيما يتعلق بالإجراءات التي يمكن أن تخفف من الأسباب الداخلية لارتفاع الأسعار، فيمكن تلخيصها فيما يلي:
ضبط نمو الإنفاق الحكومي الاستهلاكي والتركيز على الإنفاق الاستثماري مع رفع كفاءته. إعادة فتح فرص التوظيف الحكومي بنسب معينة معقولة تجاري الحاجة لتوسيع الخدمات الحكومية اللازمة لمواجهة زيادة السكان. فرض مزيد من القيود على التوسع في عرض النقود. تخفيض رسوم الخدمات المؤثرة في قدرة الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. استغلال جزء من عوائد النفط في تقديم إعانات مدروسة تخدم هذه الطبقات تساعدهم على شراء السلع الضرورية، أو تتحمل جزءا من تكاليف بعض الخدمات كالخدمات الصحية أو تكاليف التأمين الصحي. تبني إجراءات اقتصادية وقانونية جديدة وحاسمة تساعد على زيادة المنافسة وكسر الاحتكارات لفك الاختناقات في بعض القطاعات الاقتصادية كالإسكان، والنقل الجوي الداخلي، والتعليم، والخدمات الصحية، والخدمات المصرفية. وقد أصبحت الحاجة ماسة لقيام جمعية أهلية تعمل على مراجعة الأسعار ومقارنتها بنظائرها في الدول المجاورة وتقصي أسباب ارتفاعها، ونشر الوعي الاستهلاكي، وحماية المستهلكين والدفاع عن مصالحهم وتوجيههم نحو السلع البديلة.
طالما أن مستوى معيشة الناس يعتمد على مستوى الأسعار ومستوى الدخول، وطالما أن قدرتنا محدودة على ضبط الأسعار، فعلينا الأخذ بكل ما من شأنه تحسين القوة الشرائية للناس.
التضخم من أعظم مظاهر التظالم بين الناس، وعلينا التأكد على الأقل من حصول الناس على حقوقهم وحاجاتهم الأساسية في الغذاء والدواء والكساء والمأوى والتعليم.