المأزق الأمريكي في الشرق الأوسط "الكبير" يزداد تعقيداً

[email protected]

تتلاحق الأحداث والتطورات بصورة خطيرة خلال الأسابيع والأيام الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط "الكبير" بحسب التعريف الأمريكي له، وهو الممتد من منطقة وسط آسيا وبحر قزوين وصولاً إلى سواحل شرق وجنوب شرق البحر المتوسط. وفي قلب كل هذه التطورات المتلاحقة تبدو الولايات المتحدة بسياساتها الإقليمية والدولية حاضرة فيها جميعاً بصور مختلفة، بل تبدو المضار الأول من تلك التطورات جميعاً.
في خلال أيام قليلة تلاحقت ثلاثة أحداث مهمة مترابطة بصور مختلفة، كان أولها صدور قرار من الكونجرس الأمريكي بتوصيف قتل الأرمن في العهد العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى بأنه يرقى إلى مرتبة الإبادة الجماعية، وهو الأمر الذي رفضته الحكومة التركية وقامت بسببه بإصدار قرار بسحب سفيرها من واشنطن للتشاور وألغت زيارة مقررة لأحد وزرائها إلى واشنطن. وأتى بعد ذلك الحدث الثاني متمثلاً في الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إيران لحضور قمة دول بحر قزوين، وهي الزيارة التي سعت الولايات المتحدة بسبل عديدة إلى تعويقها في ذلك الوقت الحرج الذي تتدهور فيه علاقاتها مع إيران حول ملفها النووي وتهدد بالوصول إلى صدام عسكري. فقد أعلن رؤساء الدول الحاضرون لهذه القمة رفضهم استخدام أراضي بلادهم في أي هجوم عسكري على أي دولة من دولهم، كما حذر الرئيس الروسي بشدة القوى الأجنبية من استخدام القوة في المنطقة، في إشارة بدت واضحة للولايات المتحدة التي تتخوف إيران من شنها هجوماً عسكرياً عليها لرفضها التخلي عن برنامجها النووي، مؤكداً في الوقت نفسه تمسك بلاده بتعهدها بمواصلة دعم الجهود النووية الإيرانية ذات الطابع السلمي. وقبل أن يفيق العالم وصناع القرار في واشنطن من هذين التطورين اللذين أصابا السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط الكبير بضربتين موجعتين في آن واحد، إحداهما أدت إلى توتر العلاقات مع الحليف التركي الاستراتيجي فيها، والأخرى دعمت من مكانة العدو الاستراتيجي الرئيسي لواشنطن في المنطقة، أي إيران، جاء التطور الثالث الرئيسي الذي لا يقل خطورة وتعقيداً.
فبعد قيام حزب العمال الكردستاني التركي بتصعيد عملياته العسكرية خلال الأسابيع الأخيرة داخل الأراضي التركية واستخدامه أراضي منطقة كردستان العراق في تنفيذ بعضها والتدريب بداخلها، صعدت السلطات التركية من ردود أفعالها وصولاً إلى طلب الحكومة من البرلمان تفويضها بإصدار القرار في الوقت الذي تقدره بدخول الجيش التركي الأراضي العراقية لمطاردة عناصر هذا الحزب. وصدق البرلمان التركي بأغلبية كبيرة على مشروع القرار بلغت 526 نائبا صوتوا لصالح القرار بينما عارضه 19 فقط، موضحاً أن توقيت العمل العسكري وأهدافه ستقررهما الحكومة, وأنه يؤكد في الوقت نفسه احترام وحدة العراق الإقليمية وعلى أن أي تدخل عسكري سيكون هدفه الوحيد هو حزب العمال الكردستاني. وفور صدور القرار بدا الانزعاج الأمريكي منه واضحاً في تصريحات الرئيس جورج بوش الذي طالب تركيا بضبط النفس وعدم إرسال المزيد من قواتها لمطاردة متمردي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، في ظل وجوده العسكري القائم هناك بالفعل. وعلى الضفة الأخرى أضاف الرئيس السوري بشار الأسد مزيداً من الانزعاج لدى واشنطن بإعلانه أثناء زيارته تركيا تأييد بلاده لقرار برلمانها وأن لديها الحق الشرعي في الدفاع عن نفسها وأنها لا تسعى إلى الحرب وليس لديها أي أطماع في العراق.
تأتي تلك التطورات الثلاثة الرئيسية على خلفية أكثر تعقيداً بالنسبة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط الكبير، لكي تضيف لهذا التعقيد مزيداً من التعقيد. فالوضع في العراق الآخذ في التدهور على الصعيدين السياسي والعسكري الذي لا تعرف واشنطن حتى اللحظة طريقاً آمناً للخروج منه، ومعه التصعيد السياسي والإعلامي الأمريكي ضد إيران الذي ترجح تحليلات عديدة أنه يمكن أن يتحول لهجوم عسكري أمريكي عليها في أية لحظة، يبدوان الأكثر تأثراً بتلك التطورات الثلاثة الرئيسية. فعلى الصعيد العراقي سيكون للقرار التركي في حالة تنفيذه على خلفية قرار الكونجرس الأمريكي بخصوص مذابح الأرمن، آثار هائلة على الأوضاع العراقية كلها بما يوسع من الرقعة المشتعلة فيه لتشمل الشمال الذي ظل هادئاً نسبياً خلال السنوات الأربع الماضية، وهي آثار ستزيد من تورط القوات الأمريكية الموجودة في العراق بما يزيد أيضاً من صعوبة اتخاذ أي قرار أمريكي بسحب بعض منها استجابة للضغوط الأمريكية الداخلية. ولا شك أيضاً أن توتر العلاقات الأمريكية مع الحليف التركي الاستراتيجي يمكن أن تكون له آثاره السلبية الكبيرة في القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان معاً، حيث تلعب تركيا دوراً مهماً في توصيل الدعم اللوجستيكي لهذه القوات في البلدين. أما آثار الدعم الروسي العلني لطهران في أزمتها المتصاعدة مع واشنطن فهو بلا شك سيضع مزيداً من العوائق أمام حرية واشنطن في اتخاذ القرار تجاهها ويجعل من اللجوء للخيار العسكري مغامرة يجب التفكير الجاد بشأنها عدة مرات قبل التورط فيها. ولا شك أيضاً أن إقدام الرئيس الروسي على زيارة طهران وتقديم دعمه العلني لها في أزمتها مع واشنطن غير منفصل عن التصعيد الأخير المتواصل حتى اللحظة بين الأخيرة وموسكو حول ملف نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي الممتد حتى الحدود الروسية, الذي ترى فيه روسيا تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
الخلاصة أن أمريكا في ورطة حقيقية بدأتها هي بغزو العراق، واستكملتها بتهديدها وإعدادها للهجوم على إيران، وهاهي تعقدها أكثر بسياساتها غير المحسوبة تجاه تركيا وروسيا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي