في شأن الحب!
بعد انتهاء شهر الخير والعطاء أعاده الله علينا جميعاً باليمن والمسرات أجد أن الكتابة في شأن المحبة هي الأجدى, خصوصاً أن عصرنا اختصر المشاعر في رسائل جوال مكررة خلال الأعياد, وقلص تواصلنا مع ذوي الأرحام في مكالمات هاتفية سريعة. سأخبركم عن المودة الحميمة التي نعبر عنها بالحب, الكلمة التي سمعناها منذ الولادة فأحببنا الله وأحببنا رسوله ثم أحببنا الوطن والأهل والأصحاب. أنا أتكلم في مقالي هذا عن كل أنواع المحبة المشروعة. ولو تساءلنا: هل هناك في الوقت الحاضر حب حقيقي؟ هل يوجد من نحبه ونضحي بأغلى ما نملك من أجله؟ ولماذا نلهث وراء الحب؟ لماذا نريد أن نلعب دور البطولة بعد ما سمعنا عنه من عذابات, خصوصاً أن كثيرين كتبوا فيه وعنه, وكثيرون عاشوا حالات وألوان وأشكال المحبة وحكوا لنا عنها ؟! إن مستوى الحب في حياة كل فرد يتحدّد بمستوى الوعي ومستوى شفافية النفس, والوقت هو الفيصل للتطور والنضج والتفاعل. وقد عرف علماء الكيمياء سابقـاً الحب وسموه الإكسير, لأنهم كانوا يعتقدون أن هناك مادة اسمها الإكسير تحيل الحديد إلى فضة والفضة إلى ذهب, وهذا هو شأن الحب فهو يحيل الرذائل إلى فضائل, فيحيل البخل إلى كرم والجبن إلى شجاعة. فمن هو الكريم الشجاع الذي يحقق الفضيلة في عصرنا هذا؟
ولا شك أن البحث عن الحب سبّب آلاماً ومرارة لمعظم الناس تفوق كل ما سببته الأمراض والحروب عبر الأزمان, خصوصاً للفئات التي لم تجربه أو التي جربته ولم تتب. فهناك أشخاص كثيرون مستعدون للتضحية بأي شيء تقريباً مقابل أن يصابوا بمشاعر المحبة وهناك من يضيع حياته بحثاً عما يشبه الحب عبر أسلاك الهاتف أو عبر خطوط الإنترنت, ممارساً ما يشين وهو متأكد أن هذا الهذر ليس بالحب الحقيقي! فما إن يصل إلى سن الزواج حتى يتردد ويحجم لكثرة التراكمات السيئة والتجارب الخائبة التي تتهاوى صرعى أمام مطرقة الواقع. وقد سئل أحد المشايخ في المحكمة الشرعية عن أكثر حالات الطلاق في السعودية وما أسبابها فأجاب أن أكثر نسب الطلاق هي لفئة (غير المدخول بها)؟ وقال أن تظل البنت مخطوبة لسنتين أو أكثر وحينها تبدأ الخلافات بينها وبين خطيبها وكل منهما يقرر أنه مازال على البـرّّ فينفصلان ويحدث الطلاق. والسبب أن طول البعد بين الطرفين رجح احتمالات نهاية العلاقة. فالحقيقة تقول إنه إذا ازدادت المحبة تضاعف خوفنا من الإساءة لمن نحب! وها هم شباب وشابات الغد يخربون دروب المحبة من أول خطوة فما هو المنتظر؟
الحب (يا ناس) هو ذلك الكائن الغامض الذي يولد في مجتمعنا ومجتمعات أخرى خديجاً بعملية قيصرية، ويدفن مع الذكريات بلا كفن! فها هو انتحار طالبة جامعية هجرها حبيبها (وهي مجنونة بالتأكيد لأنها انتحرت من أجل رجل!) جعل أكاديمياً أمريكياً اسمه ليو بوسكاليا Leo Puscalia يقرر تدريس مادة الحب في الجامعة كمقرر مكثف ضمن برنامج دراسي. وبالطبع اتهمه زملاؤه من الأساتذة بالتفاهة والهرطقة, ولكنه واصل طريقه ليصبح أشهر أستاذ في علم الحب. يقول بوسكاليا "إن الحب سلوك مكتسب، وهذا يناقض البديهيات التي تربينا عليها صغاراً, التي تعتبر الحب سلوكا فطريا يقترب من الوظائف البيولوجية مثل الأكل والتنفس، فالحب لا يحدث من أول نظرة بل هو فعل مشاركة بين المتحابين وليس عطاءً بلا حدود من طرف واحد". ما نخافه في نمو علاقاتنا هي اللامبالاة وفتور الشعور، فالذي يكرهنا ربما نحاول معه لنكسب ودّه فهناك أحياناً محبة من بعد عداوة, أما الذي لا يبالي بوجودنا أصلاً فلا سبيل لنيل محبته "فالأرواح أجناد مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف".. الحديث.
الحب قرائي الأعزاء صناعة اجتماعية تشكلها الثقافة السائدة لدينا وليست الذات الصادقة للفرد, فقد حُمّلَت كلمة الحب في ثقافتنا معنى الذنب والخطيئة حتى أصبح لدينا حساسية مفرطة من هذه الكلمة! بتنا نخاف من التعبير بحجة أننا نخاف أن يفهمنا الآخرون خطـأ! ونكيل الملامة إن فشلنا فنقول إن الهوى غلاّب وإن مراية الحب عمياء وإن قلب الساذج في عينيه, مع أن العيب في قلوبنا الفاغرة وليس في زماننا. لماذا كلما تعامل معنا أحد بصدق وشفافية ظننا أن وراء الأكّمة ما وراءها من طلب للمصلحة وسعي للمنافع؟ لماذا يكون مبدأ البعض في الحياة هو التزلف لأكبر عدد من الناس في اليوم الأبيض لأنهم سينفعونه في اليوم الأسود؟! يقول الواقع للأسف إنه من ندرة التعبير عن المحبة ولانعدام الثقة أصبحنا نخاف التبسم في الوجوه وضنّ بعضنا بإفشاء السلام في المحافل واكتفى آخرون بصحبة من يعرف فقط مخافة الغدر والملامة. فعندما يكون الغدر طبعاً عند البعض تصبح الثقة بكل أحد عجزاً.
وبما أني واثقة من وجود الحب الحقيقي الذي هو هبة الله لنا في الحياة الدنيا ومتأكدة أن هناك بشرا يستحقون منا المبادرة. عليه فإني أريد منكم أن نتعاهد على أمر واحد, أن نعلن الصفاء مع من حولنا وأن ننشر السكينة في نفوسنا حتى يهدأ التعب. هي دعوة لإعلان المحبة الخالصة في الله لكل من (يستأهل) ولترك الخلق المتعِبين (بكسر العين) ليجازيهم الخالق. يكفيه فخراً من يبادر بالتعبير عن المحبة أن في قلبه حياة وفي وجهه نظر!
كل عام وأنتم ومن تحبون بخير.