هل فشلت الديمقراطية أيضا؟
الديمقراطية حكم الشعب، حيث له القول الفصل فمن يصل إلى سدة الحكم، وينبني على ذلك أمران: الأول، أن يكون الحاكم المنتخب ديمقراطيا أكثر حساسية لتوجهات الرأي العام وأن تأخذ عملية صنع القرار في نظام ديمقراطي شكلا جماعيا تضعف معه قدرة المسؤول الأول على التصرف بانفرادية، أو أن يظهر أن له دورا مبالغا فيه في صياغة توجهات بلاده وسياساتها، كما هو الحال في النظم الديكتاتورية الشمولية. الأمر الآخر، أن الديمقراطية تسهم بفاعلية في ضمان وصول الأقدر والأكفأ إلى سدة الحكم، بافتراض أن لدى الناخبين ما يكفي من الحصافة والمعرفة لجعلهم مؤهلين لاختيار الأنسب والأكفأ بين مرشحين عدة لمنصب معين.
إلا أن واقع الديمقراطية اليوم يظهر فشلها في تحقيق أي من الأمرين، وأن الحكم الرشيد ليس بالضرورة نتيجة حتمية للديمقراطية، حتى وإن كانت ديمقراطية سالمة من التزوير والتلاعب في الأصوات. ففي ظل انشغال العامة بأمورهم الحياتية، وقدرة الآلة الإعلامية على التأثير على اختياراتهم، أصبحوا غير مؤهلين ولا قادرين على بناء اختياراتهم وفق أسس سليمة، لذا فأصواتهم لا تذهب دوما إلى الأجدر والأقدر على الدفاع عن مصالح الشعب والأمة، وتعارض الاستبداد والديكتاتورية مع الحكم الرشيد لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية تضمن تحققه.
على سبيل المثال، رغم احتفاظ الحزب الحاكم بسلطته في كل من بريطانيا وفرنسا، حدثت تحولات جذرية في سياسات البلدين الخارجية بمجرد تغير من على رأس السلطة، وبدت تلك السياسات كما لو أنها تأخذ اتجاها معاكسا تماما لما كانت عليه قبل هذا التغير. فبعد استقالة رئيس الوزراء البريطاني، مع استمرار حزبه في الحكم، انقلب موقف الحكومة البريطانية من استمرار تورطها العسكري في العراق، ولعل كلنا يذكر أن المظاهرات المليونية التي شهدتها العاصمة البريطانية ضد هذه الحرب، التي كانت الأكبر في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية، لم تستطع تحريك موقف السيد بلير من الحرب قيد أنملة، أو تحد من اندفاعه للحرب على العراق وإصراره على استمرار التورط البريطاني فيها، مع كل الثمن الباهظ الذي بدا واضحا أن بريطانيا تدفعه جراء هذا الموقف الأرعن، إلا أن مجرد استقالته وتولي السيد براون رئاسة الوزراء غير الموقف تماما، وبدا الأمر كما لو أن ديكتاتورا أزيح وحل محله آخر لا ديمقراطية برلمانية عريقة تمتلك مؤسسات يفترض أنها تسهم بفاعلية في صياغة سياساتها بغض النظر عمن يقف على قمة الهرم السياسي. وفي فرنسا أعيد انتخاب الحزب الحاكم، وكل ما في الأمر كان استبدال السيد شيراك بالسيد ساركوزي، وشتان بين توجهات الرجلين وسياساتهما على المسرح العالمي، فبينما كان شيراك أبرز معارضي الحرب على العراق، أصبح ساركوزي أكبر قارع لطبول الحرب ضد إيران، وأكبر المتحمسين للتصعيد ضدها.
وهناك دلائل واضحة على فشل الديمقراطية في إيصال حتى من يملك الحد الأدنى من الكفاءة لتولي سدة الحكم، ناهيك عن أن يكون الأفضل والأقدر على خدمة مصالح الشعب. ففي أقوى وأعظم ديمقراطية عرفها العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كان تأهيل جورج بوش الابن الذي أوصله لرئاسة أمريكا ليس كفاءته وخبراته فهو لا يملك أيا من ذلك، وإنما فقط كونه ابن رئيس سابق وأن شخصا اسمه كارل رووف أقنعه بقدرته على أن يجعل منه رئيسا لأمريكا، وهذا ما كان، ليقود الولايات المتحدة بصورة كارثية أفقدتها مصداقيتها وسلطتها الأخلاقية في العالم. والسيدة هيلاري كلينتون التي تتصدر الآن استطلاعات الرأي بين مرشحي الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2008، تأهيلها الوحيد أنها زوجة رئيس سابق، ودون ذلك ربما لم تكن لتحلم حتى بالفوز يمقعد في مجلس بلدي في مدينة ريفية، لا أن ترى نفسها مؤهلة لأن تكون أول امرأة تصل إلى رئاسة الولايات المتحدة. وفي حال وصول السيدة كلينتون للرئاسة، ستكون الولايات المتحدة أعظم ديمقراطية عرفها العالم محكومة من عائلتي بوش وكلينتون لمدة 28 عاما، أي أن هذه الديمقراطية العظيمة والقوة الأعظم الوحيدة في العالم، التي تملك أفضل العقول والكفاءات التي أبهرت العالم، لم تنتخب ديمقراطيا وتوصل إلى سدة قيادتها خلال أكثر من جيل كامل إلا ابن رئيس سابق أو زوجة آخر.
أكاديمي وكاتب اقتصادي