التلقيح الاصطناعي وتأجير الأرحام .. أساليبه ومشروعيته (2)
سردنا في المقال السابق الجزء الأول من قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي المتخذ في دورته السابعة سنة 1404هـ، بشأن التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب. ونسرد في هذا المقال الجزء الثاني من القرار المذكور، الذي يبدأ تحت عنوان "النظر الشرعي بمنظار الشريعة الإسلامية"، إذ جاء نصه كما يلي:
"هذا، وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد النظر فيما تجمع لديه من معلومات موثقة، مما كتب ونشر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها، لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي:
أولا: أحكام عامة:
أ. إن انكشاف المرأة المسلمة، على غير من أحل شرعا بينها وبينه الاتصال الجنسي، لا يجوز بحال من الأحوال، إلا لغرض مشروع يعتبره الشرع مبيحا لهذا الانكشاف.
ب. إن احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها، أو في حالة غير طبيعية في جسمها، تسبب لها إزعاجا، يعتبر ذلك غرضا مشروعا، يبيح لها الانكشاف، على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة.
ت. كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحا لغرض مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة – إن أمكن ذلك – وإلا فامرأة غير مسلمة، وإلا فطبيب مسلم ثقة، وإلا فغير مسلم بهذا الترتيب.
ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالجها، إلا بحضور زوجها أو امرأة أخرى.
ثانيا: حكم التلقيح الاصطناعي:
1- إن حاجة المرأة المتزوجة، التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تعتبر غرضا مشروعا، يبيح معالجتها بالطريقة المباحة، من طرق التلقيح الاصطناعي.
2- إن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية، من رجل متزوج، ثم تحقن في رحم زوجته نفسها، في طريقة التلقيح الداخلي) هوأسلوب جائز شرعا، بالشروط العامة الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل.
3- إن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامرأة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجيا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوب مقبول مبدئيا في ذاته، بالنظر الشرعي، لكنه غير سليم تماما من موجبات الشك، فيما يستلزمه، ويحيط به من ملابسات، فينبغي ألا يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوافر الشرائط العامة الآنفة الذكر.
4- إن الأسلوب السابع (الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار، تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم) يظهر لمجلس المجمع، أنه جائز عند الحاجة، وبالشروط العامة المذكورة.
5- وفي حالات الجواز الثلاث يقرر المجمع: أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البذرتين، ويتبع الميراث، والحقوق الأخرى، ثبوت النسب، فحين يثبت نسب المولود من الرجل أو المرأة، يثبت الإرث وغيره من الأحكام، بين الولد ومن التحق نسبه به.
أما الزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرتها (في الأسلوب السابع المذكور) فتكون في حكم الأم الرضاعية للمولود، لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته، في نصاب الرضاع الذي يحرم به ما يحرم من النسب.
6- أما الأساليب الأربعة الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقين الداخلي والخارجي – مما سبق بيانه – فجميعها محرمة في الشرع الإسلامي، لا مجال لإباحة شيء منها، لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين.
هذا، ونظرا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصور الجائزة شرعا، ومن احتمال اختلاط النطف، أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولا سيما إذا كثرت ممارسته، وشاعت، فإن مجلس المجمع: ينصح الحريصين على دينهم ألا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر، من اختلاط النطف أو اللقائح.
هذا ما ظهر لمجلس المجمع في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية، من قضايا الساعة ويرجو من الله أن يكون صوابا. والله سبحانه أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل وولي التوفيق). انتهى نص القرار.
ثم أدخل المجمع الفقهي في دورته الثامنة المنعقدة من 28 ربيع الآخر 1405هـ إلى 7 جمادى الأولى 1405هـ تعديلا على قراره المذكور آنفا جاء فيه ما يلي:
(الحمد لله وحده، الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد. وبعد:
فإن مجلس الفقه الإسلامي، في دورته الثامنة المنعقدة في مقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 28 ربيع الآخر 1405هـ إلى يوم الإثنين 7 جمادى الأولى 1405هـ الموافق 19 – 28 يناير 1985، قد نظر في الملاحظات التي أبداها بعض أعضائه، حول ما أجازه المجمع في الفقرة الرابعة، من البند الثاني من القرار الخامس، المتعلق بالتلقيح الصناعي، وطفل الأنابيب الصادر في الدورة السابعة، المنعقدة في الفترة ما بين 11 – 16 ربيع الآخر 1404هـ. ونصها:
(إن الأسلوب السابع، الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين، وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار، تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل، عن ضرتها المنزوعة الرحم).
يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة وبالشروط العامة المذكورة، وملخص الملاحظات عليها:
(إن الزوجة الأخرى، التي زرعت فيها لقيحة بويضة الزوجة الأولى قد تحمل ثانية قبل انسداد رحمها، على حمل اللقيحة، من معاشرة الزوج لها، في فترة متقاربة مع زرع اللقيحة، ثم تلد توأمين، ولا يعلم ولد اللقيحة من ولد معاشرة الزوج، كما لا تعلم أم ولد اللقيح التي أخذت منها البويضة من أم ولد معاشرة الزوج، كما قد تموت علقة أو مضغة أحد الحملين، ولا تسقط إلا مع ولادة الحمل الآخر، الذي لا يعلم أيضا أهو ولد اللقيحة، أم حمل معاشرة ولد الزوج، ويوجب ذلك من اختلاط الأنساب لجهة الأم الحقيقية لكل من الحملين، والتباس ما يترتب على ذلك من أحكام، وإن ذلك كله يتوجب توقف المجمع عن الحكم في الحالة المذكورة).
كما استمع المجلس إلى الآراء التي أدلى بها أطباء الحمل والولادة الحاضرون في المجلس، والمؤيدة لاحتمال وقوع الحمل الثاني من معاشرة الزوج، لحاملة اللقيحة، واختلاط الأنساب على النحو المذكور في الملاحظات المشار إليها.
وبعد مناقشة الموضوع، وتبادل الآراء فيه، قرر المجلس: سحب حالة الجواز الثالثة المذكورة في الأسلوب السابع، المشار إليها من قرار المجمع الصادر في هذا الشأن في الدورة السابعة عام 1404هـ).
خلاصة ما سبق أن المجمع الفقهي أجاز فقط أسلوبين من أساليب التلقيح الصناعي وهما:
1- الأسلوب الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج ثم تحقن في رحم زوجته نفسها.
2- والأسلوب الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامرأة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجيا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة.
واعتبر جميع الأساليب الأخرى غير جائزة شرعا، تبقى الإشارة إلى أن المجمع الفقهي لم يتناول في قراره المذكور بالبحث والرأي مسألة تلقيح المرأة صناعيا بمني زوجها بعد وفاته، وهي مسألة أشار إليها الدكتور علي حسين نجيده، الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، في كتابه "بعض صور التقدم الطبي وانعكاساتها القانونية في مجال القانون المدني"، وأوضح أن هذه المسألة أثارت جدلا كبيرا بين الأطباء وفقهاء القانون الفرنسي مع بدء انتشار بنوك حفظ المني والبويضات، فمنهم من أيّد هذا النوع من التلقيح ومنهم من عارضه، وبعض فقهاء القانون لم يجد جناحا في تلقيح المرأة بمني زوجها بعد وفاته إذا كان قد أبدى موافقته على ذلك أثناء حياته. وذهب البعض الآخر من هؤلاء الفقهاء إلى تكييف هذه العملية على أنها (وصية)، وأنه ليس ثمة ما يمنع في رأيهم من أن يوصي الشخص بجزء من ذمته الجينية كما يوصي بجزء من ذمته المالية، وأنه في حالة غياب التنظيم التشريعي فإنه يجب أن نعامل المني البشري معاملة التبرع بالأعضاء بعد الموت. ويبدو لي – والله أعلم – أن هذا النوع من التلقيح غير جائز شرعا، لأن العلاقة الزوجية تنتهي بوفاة أحد الزوجين، ومن ثم فلا يجوز التقاء ماء الرجل بماء المرأة بعد انفصال علاقتهما الزوجية بالوفاة أو الطلاق.