ماذا وراء الأسوار؟

قديماً كانت بيوتنا مستورة عن الأنظار بحجاب من الحوائط الطينية أو الحجرية، التي لا تحوي إلا النزر اليسير من فتحات النوافذ الصغيرة، والمرتفعة فوق مستوى نظر العابر في الطريق، وكانت متلاصقة ومتجاورة تحدب على بعضها وتحنو في خجل واستحياء، وإن استدعت الظروف في المناطق الحارة الرطبة (الشبيهة بمناخ مدينة جدة وبقية المدن الساحلية) أن تكون فتحات النوافذ كبيرة لتسمح لنسمات الهواء أن تتحرك إلى داخل المسكن بكميات أكبر لتلطيف الأجواء؛ فإنه يسدل عليها ستار أو نقاب خشبي يحفظ حشمتها ويمنع وصول الأنظار العابثة إليها (يسمى الروشان أو المشربية). فالمساكن لم تكن متبرجة تظهر محاسنها إلى الخارج، وإنما كانت مساكن جمالها وحسنها داخلي لا يبصره إلا من أتى البيوت من أبوابها، وأذن له بالدخول إليها، فدواخلها آية في الحسن والجمال والإبداع، وإذا نقَّلت النظر داخلها بإمعان وجدت الثراء في الزخارف والنقوش والألوان على أبوابها وجدرانها وأسقفها وأعمدتها.
ولكن مع بداية النهضة التنموية في المملكة، قبل أكثر من 50 عاماً، وازدياد معدلات الهجرة الداخلية والخارجية إلى المدن للمشاركة في عملية التنمية؛ عجزت أساليب البناء التقليدية بالحجارة والطين والمتوارثة عبر القرون؛ من أن توفر الطلب المتزايد على المساكن لجميع الأسر المهاجرة، فاستعيرت من أجل ذلك تقنيات بناء تميزت بقدرتها على توفير الأعداد المطلوبة من المساكن، كما استوردت لتنفيذها مواد بناء جديدة (مثل: الحديد والأسمنت)، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل جُلب مع تقنيات البناء ومواده أنماط سكنية غريبة على بيئتنا ومجتمعنا. أنماط تطورت في مجتمعات وبيئات تختلف في قيمها وتقاليدها وعاداتها عن قيمنا وتقاليدنا وعاداتنا، فعرفنا نتيجة لذلك الفيلات، وأصبحت بعد ذلك مساكننا التي لا نرضى بديلاً عنها.
وانتشرت الفيلات، وهي دارات متبرجة بطبعها، تزهو بإظهار محاسنها ومفاتنها الخارجية للجميع، متحلية بالطنف والأقواس والزخارف البارزة، وهي تحب أن تنتصب مستقلة عن غيرها، مكشوفة من جهاتها الأربع، مستعرضة وسط الأضواء بلا حياء ولا خجل، لاهية ضاحكة بنوافذها الكبيرة وشرفاتها (بلكوناتها) المكشوفة، مظهرة للماشي في الشارع جزءاً من محاسنها الداخلية. كما أنها تحب أن ترتدي دائماً أجمل الحلل، متتبعة خطوط الموضة، تلبس لكل عام أحدث ما تخرجه لها طرز الفن المعماري، فتارة ترى الجملونات تزين هامتها، وتارة يلفها الرخام البراق، وفي أخرى تلبس الحجارة المنحوتة بزخارف ونقوش متغيرة بتغير الذائقة مع الأيام، فهي دارات مولعة بالسير مع موضة الفن المعماري حيثما سارت.
ولكن هل تركناها على حالها تُظهر محاسنها ومفاتنها، ونحن أمة تؤمن بستر العورات وحجب الزينة؟! لا والله ما تركناها، فألبسناها في البداية حجاب الأسوار لتمنع العابر في الشارع من الاطلاع على زينتها ومحاسنها، وأسبغنا عليها بعد ذلك من اللباس ما ستر شرفاتها، وغطينا سفور نوافذها بالستائر الثقال، فلم تعد تتنفس الهواء الطبيعي ولا ترى ضوء الشمس، ولكنها استمرت في العناية بجمال لباسها وزينتها الخارجية، وبقي بعد ذلك من يستطيع اختلاس النظر إلى شيء من زينتها من الفيلات المجاورة لها. فهل استسلمت وتركت عادتها في المبالغة بالتبرج والزينة الخارجية؟ أو هل قبلنا نحن بها على علاتها في حب الزينة وتتبع الموضة؟ لا والله ما تركت طبعها ولا أقلعت عنه، وما تركناها نحن على حالها، فأضفنا فوق الأسوار أسواراً؛ من سواتر الحديد والأخشاب والصاج. ولكن السؤال الذي يبقى: ما قيمة هذه الزينة المعمارية التي لا يراها أحد ولا يستمتع بها ناظر؟ ولماذا الإصرار عليها؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي