غابتْ الوزارتان، غابَ الإعلامُ، وأشرقتْ المواهبُ
.. أسجل غياباً للمرةِ الثانية على التوالي للإعلام ومكاتب وزارة الإعلام.. لحدثٍ كان يجب، ليس فقط أن تحضره فعاليات الوزارة، بل أن تحتضنه.
في العام الماضي كُتِب مقالٌ هنا بعنوان: "مؤتمرٌ مضيءٌ أقيمَ في الظلام". وكنتُ أظن أن الجهة الإعلامية ستنتبه لهذا الأمر وتأخذه على محمل الجدّ، بما أنها معنية بالفعاليات المعرفية والثقافية، مع غيابٍ للجهاتِ التعليمية. وأنا أعني بالفعاليات، والتي تسمى مؤتمرات، بالاصطلاح الفني لنشاطات الخطابةِ المرتجلة التي تسمى بالإنجليزية بِـ "التوست ماستر".
لماذا نعتقد بأهمية هذه الفعاليات؟ حضورُ أي فعالية من فعاليات الخطبة المرتجلة سيكون مُغـْنِيا عن الشرح، فهي مُبْهـِرة بما نعرفه من مقاييس الإبهار الممزوج بالسعادة، وبطعم الإنجاز المهاري الإنساني، وكيف أن المهاراتِ البشرية، ومنها الخطابة، تنمو بشكل متصاعدٍ في نطاق المنافسات المُعلنة، فتكون المنافسةُ كالمِهمازِ الذي يغرزه الفارسُ برفقٍ في خاصرةِ الجوادِ لينطلق كالبرقِ على السهول..
في الخطابةِ المرتجلة يحتاج المرتجلُ للبديهةِ الوامضةِ، والمعارفِ المتنوعة، وسرعة التصرفِ، وفنِّ الإلقاءِ، ومهارةِ الإيماءِ، وحصافةِ الكلماتِ، وإبقاءِ المشاهد والسامع متحفزَ الاستقبال كل وقتِ الارتجال، وإبهاره بالنفـَس السريع، والإدهاش بالتعبير الخاطفِ، والقفلةِ المفاجـِئة.
وهذه الميزات تؤهِّلُ الفردَ ليكون ماهراً في معظم أمور الحياة: في العمل، وفي البيت، وفي ميادين التفاعل الإنساني المفتوحة.. أي أنها من عناصر طبخةٍ يريد الجميعُ التمتع بلذة استطعامِها، وجبةٌ اسمُها: النجاح.
أليس هذا بالتمام والآمالِ ما نريد لأبنائنا.. ولنا؟ أليس هذا ما تريد أن تحققه الجهاتُ الثقافية والإعلامية والتعليمية. كل هذا يتحقق أمام عينـَيّ في ندواتِ "التوست ماستر" وبنجاحٍ شاهق، وبتطورٍ يملأ المشهدَ ويُسعِد النظرَ فإذن أين وزارتانا الكريمتان الإعلامُ والتعليم عن وصفةٍ جاهزةٍ ومطبَّقةٍ للنجاح التعلّمي والتدريبي والمعرفي والتفاعلي والثقافي؟ أين يبحثون عن النجاح.. أفي الأدغال، والجيادُ تسبح سارحة في السهول؟ ويبقى سؤالٌ يملأ الفم مرارة، ويترع الروحَ حسرة: الجماعةُ.. أهم جادّون؟
أقول شيئاً في قلبي لمسؤولي الثقافة، مع أن صديقنا وزير الإعلام الجديد، من كبار المثقفين، وربما لم يطلع على النشاط بعد، ولكنك حين تتكلم عن جهازٍ لا تقف عند أشخاص، لأن التطورَ سلسلة مستمرة يجب ألا تتوقف كي ينزلَ شخصٌ ويركبَ شخصٌ جديد، أليس كذلك؟.. أريد أن أقول إن الناسَ المهتمين سيمضون في تنميةِ أنفسِهم، ولن يضيّعوا الوقتَ ويهدروا الفرصَ لأن وزارتين لم يتهيأ لهما الوصول لهم. ولا الإعلام.. نعم، لم أرَ مندوب جريدةٍ واحدةٍ، في مؤتمرٍ لم يكن يملأ هواءَهُ إلا الذكاءُ والفطنةُ والبشريتـَان.. في أقصاهِما.
أما الدليلُ على إصرار الجادين من أبنائنا على تطوير أنفسهم، ففي الأعوام الماضية كنتُ أرى الخطباءَ ومعظمهم من الشبيبةِ الطالعة معجبين بقدراتهم التلقائية الحاضرة وبلاغتهم بلغةِ الإنجليز، وكانوا كلهم من الجالياتِ الأجنبيةِ (وللمفارقة، معظمهم تلقوا تعليمَهم في المدارس الدولية عندنا وبيننا، وانظر لقدرات أبنائنا الخطابية في مدارسِنا!) ومع فرط إعجابي بتلك المواهب الصاعدة، إلا أن في داخلي كنت أحس بحسرةِ الغيور، لأن لا أحد من أبنائنا في مسرح المنافسة.. في بلدي، في مدينتي، في نادٍ عالمي في كل بلدٍ يبرز به أهلـُهُ الأصليون.
ولأن الناسَ واعون، هذه المرة أقيم مؤتمرُ التوست ماستر تحت شعار "زرع بذور الثمار Sowing Seeds for Success"، في مدينة الجبيل – بضيافة "سابك"، وتشكر على ذلك - وهمتُ في سماوات الفرح والفخر، فقد كان الشبابُ السعوديون هم أروع النجوم وأسطعها بريقا.. ما أحلى أن ترى الحلمَ يتحقق أمامك، وعرفت أن الله لم يرسل لنا في وجداننا غرائزَ الأحلام إلا لأنها دليلٌ للتطبيق.. بل إن الذي قطف مسابقة "الخطابة الفاكهة Humorous Speech" هو الشابُ السعودي فيصل القحطاني، شابٌ ملتحٍ يلمع ذكاءً وخفة روح، ويجب أن تعرف أن أصعب الأمور أن تُضحِكَ الناس برقي، وأسهلها إِحزانهم.. فكيف إذا كانت بلغة غير لغتك؟! وتألق القحطاني، وكاد يُخرج الناسَ من طورهم ضحِكاً، وقد فاتتني الدورة، وطلبت منه بصفتي الآمرة حينها كضيفِ اللقاء الرئيس أن يعيدها من أجلي، وتردد بأن الناس لن يضحكوا مرة ثانية لأنها معادة، وقلت له: "أنا سأضحك". وأعادها، وضحكتُ ولم أستطع أن أوقف نفسي.. لولا أن الجمهورَ كانت ضحكاته أكثر.. للمرةِ المُعادة!
وخالد فخر الدين الهاجري، أيضا بلحيتهِ المرسلة أجاد فوق التصور، والشاب الساعاتي كان بارعاً في خطابة عن الغضب، وأضحكنا وهو يخبرنا عن قصة غضبٍ له، والشاب علي الخلف تهادى وبسَط سيادته الخطابية والإيمائية على المسرح وهو يتحدث عن أثر الانطباع الأول، وبإنجليزيةٍ فصيحةٍ مفخّمةٍ تغارُ منها ملكة بريطانيا.
لكي تتدارك وزارتَا الإعلامُ والتعليمُ الأمورَ، لهما أن تسهما في تنشيط دوراتٍ للخطابة بدءاً باللغةِ العربية التي نفتقر لها افتقارا شديدا في جيل تلامذتنا الآن - مع إعجابٍ بتجربة قامت بها إدارة تعليم المنطقة لشرقية، وآمل أن لا تزال مستمرة - يجب أن يعلم أولادُنا وبناتنا أننا كنا يوما سادةَ الخطابة والتعبير، وأن ذلك لا بد يُعاد ويستعاد.
للمرة الثانية، غابت الجهات المعنية. للمرة الثانية، غاب الإعلامُ.. ولكن أشرقـَتْ شموسٌ سعودية لا يطفئها غيابُ من لا رغبة لهم في الإشراق!