هلوسة نفس ثرثارة

لاحظت مرارا خلال تجوالي في السير الذاتية لمعظم القادة والمصلحين أن عثورهم على أدوارهم واكتشافهم لطبيعة رؤاهم قد تم بشكل تدريجي تراكمي – مع وجود بعض الاستثناءات – من خلال ابتعادهم بداية عن استنزاف طاقاتهم في مشاحنات أنانية رخيصة، والتفاتهم نحو البحث عن حاجات مجتمعهم، ثم الاستجابة الشجاعة لصوت ضمائرهم نحو تلبية هذه الحاجة، والتي قادتهم بدورها إلى حاجة أخرى، وهكذا شيئا فشيئا يبدأون بالتفكير في استراتيجية عطاء من خلال مشروع أو مؤسسة أو حركة ينظمون جهودهم من خلالها لكي تستمر رؤاهم في خدمة الآخرين.
ولاحظت كذلك أنه ما زال هناك الكثير ممن يقبع في مكانه نفسه منذ سنوات ويردد معزوفة كئيبة تنبعث من اسطوانة مشروخة تئن بمقطوعات يأس مختلفة تدور حول: "أعيش في دوامة من الملل"، "لا أشعر بمعنى لوجودي اليومي" أو "لا أملك القدرة على صنع أي تغيير"، "لا يمكنني التأثير في الأمور"، "لا فائدة .. لن تجدي أي محاولة مني"، ولا أملك حينها إلا أن أردد في داخلي: إنها هلوسات النفس الثرثارة.
إن عديدا منا يبحث عن شيء ما لجعل حياته أفضل، فبغض النظر عما نملك أو نفعل فإن هناك شعورا بالفراغ والوحدة الداخليين ولا نشعر أبدا بالرضا والإشباع الروحي، وهذا دليل على أننا خارج المسار الصحيح وعلى أننا في حاجة لتصحيح اتجاهنا، وغالبا ما نعتقد أن التصحيح سيكون في وظيفة جديدة أو رحلة بعيدة أو بيت مختلف أو زوجة أخرى، ولكن المعالجة ليست كذلك، والبداية ليست من هنا.
إنها في الانفتاح على مكان ما بداخلنا يسميه المصلحون التربويون وبعض الخبراء "النفس العليا"، تلك المختلفة تماما عن النفس الثرثارة التي تدور اهتماماتها دوما حول إشباع احتياجات الأنا والمكاسب الهزيلة والانتصارات الرخيصة والنهم اللامنتهي لاقتناء الأشياء، بل تلك التي تتجاوز الحدود الضيقة للعيش ساعية نحو مكاسب من نوع أرقى تجدها غالبا في العطاء أكثر من الأخذ، وفي التسامح أكثر من الانتقام، وفي إظهار الحب أكثر من الحسد والحقد.
إذا استمعت لنفسك الثرثارة – ومعظمنا يمتهن ذلك - فستكون تجربتك في الحياة مليئة بالخوف والقلق المستمر، لأنها تجيد استثارة تلك المشاعر السلبية بمتطلباتها الأنانية وتفكيرها المستمد من الشعور بالندرة وستتوقف نفسك عن توسيع مداركها ورؤيتها، ولكنك إذا صممت على إرهاف السمع لصوت النفس العليا بداخلك فسيكون وجودك في الحياة أكثر انطلاقا، وأقل خوفا، منطلقا من عقلية الوفرة التي تطلق نوايا إيجابية نحو الكون والآخرين فتجذب شبيهها من الأحداث والمشاعر الطيبة، ومن خلال هذا الموقع السامي المتعالي على التوافه يمكنك خلق حياة ذات قيمة أينما ذهبت ومهما فعلت، وسوف تطور من علاقتك مع العائلة والعمل والنمو الشخصي، وسيكون بإمكانك حينها أن تكون واحدا من أولئك الذين يسهمون في جعل العالم مكانا أجمل للعيش.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي