أدلجة الاقتصاد (1-2)

في الأسبوع الماضي كان لي شرف الحضور والمشاركة في المؤتمر السعودي العالمي الثاني للمحاسبة تحت شعار المحاسبة والاستثمار، الذي نظمته الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين خلال الفترة من 29 إلى 31 آذار (مارس). المشاركون في المؤتمر تناولوا عدة مواضيع مهمة، ومن ضمنها الأسباب التي أدت إلى الأزمة المالية التي مازالت تلقي بظلالها على اقتصاديات أغلب دول العالم، ولو كانت بنسب مختلفة، وكذلك الدروس التي ممكن تعلمها من هذه الأزمة حتى يمكن تلافي حدوثها في المستقبل، دراسة الأحداث وتحليلها ومحاولة استخلاص الدروس والعبر منها عرف أكاديمي وعلمي ومهني في غاية الأهمية، وعلى هذا تشكر هيئة المحاسبين القانونيين السعوديين على إقامة مثل هذا التجمع المهم ليس في موضوعاته فحسب بل في توقيته، وهنا لا بد من شكر من يستحق الشكر من الرجال الذين جعلوا هذا التجمع الطيب ممكنا وعلى رأسهم سعادة الدكتور أحمد المغامس الأمين العام للهيئة ونائبه سعادة الدكتور يحيى الجبر والشباب السعوديون من منسوبي الهيئة الذين أداروا فعاليات المؤتمر بكل كفاءة ومهنية وحرفية عالية.
مثلما ذكرت سابقاً طرحت في المؤتمر موضوعات في غاية الأهمية، ومما لا شك فيه أن المهتمين بالاقتصاد المحلي من مستثمرين ومشرعين وصانعي سياسات سيستفيدون منها، ولكن هذا رغم أهميته ليس الذي دفعني لكتابة هذا المقال، فالذي جعلني أكتب هذا المقال هو ما لمسته خلال بعض جلسات المؤتمر من محاولة البعض لأدلجة الأزمة المالية، أي قراءة الأزمة المالية وأسبابها من خلال أحكام مسبقة ليس لها علاقة بالاقتصاد، وأقصد هنا بالأدلجة محاولة قراءة أسباب الأزمة المالية من وجهة نظر أيديولوجية (كلمة أيديولوجية هنا ليس بالضرورة أن تكون مسبة، بل المقصود بها هو معتقد فكري ـ أي معتقد فكري مهما كان، وليس بضرورة أن يكون معتقدا دينيا)، فالأيديولوجي هو الشخص الذي لا يرى الأشياء إلا من وجهة نظره هو فقط بصرف النظر عن صحة أو خطأ وجهة نظره وعدم الاهتمام لوجهات نظر الآخرين.
وللعدالة فإن أدلجة الأحداث ليس بجديد على التاريخ البشري، فعلى مدى العصور كان الذين يحاولون أدلجة الأزمات يردون أسباب كل أزمة يواجهها المجتمع البشري إلى ما يعتقدون أنه خاطئ في وجهة نظر الطرف المقابل، ويبدر إلى الذهن في هذا المجال الجدال الذي دار بين المدافعين عن النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي (الشمولي) في الثلاثينيات من القرن الماضي على أثر الكساد العظيم الذي أصاب الاقتصاد العالمي في ذلك الوقت، فالمدافعون عن النظام الرأسمالي بقيادة حايك وميسس، وهما من مدرسة النمسا للأعمال (وأقصد بالمدرسة هنا الخط الفكري) كانوا يعتقدون أن ما حصل من كساد اقتصادي ما هو إلا تصحيح طبيعي، فمن وجهة نظرهما أن الحركة التصحيحية هي شيء صحي، وأن النظام الرأسمالي يتجدد بعد كل حركة تصحيحية ويتعلم من أخطاء الماضي، وفي المقابل يرى أنصار النظام الاشتراكي أو النظام الشمولي (أنا ليست جيدا في الترجمة، وأقصد هنا السوشليزم في اللغة الإنجليزية) أن سبب انهيار الاقتصاد العالمي يعود إلى الأساس الذي بنيت عليه الرأسمالية وهو "الربحية"، أي أن سعي الأفراد لتحقيق الربح هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى انهيار الاقتصاد العالمي ويطالبون بتبني النظام الشمولي الذي يكون الفرد فيه آلة لخدمة ما يسمى المجتمع.
في مؤتمر المحاسبة والاستثمار رأيت التاريخ يعيد نفسه ولكن بلاعبين مختلفين، فحايك وميسس غير موجودين، ولكن فكرهما ما زال موجودا بطريقة أو بأخرى، أما الاشتراكيون أو الشموليون فقد استبدلوا بمن يعتقدون أن الأزمة المالية تعود لسبب وحيد فقط وهو أن الاقتصاد العالمي انهار لأنه اقتصاد "غير رباني".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي