لماذا تقمع إسرائيل احتفالية القدس كعاصمة للثقافة العربية؟

لم يحدث قط على مر تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أن خشيت إسرائيل السلاح العربي، لإيمانها بأن ميزان القوى العسكرية هو دائما إلى جانبها، وهي الدولة النووية التي تستخدم أكثر الأسلحة تطورا في كل حروبها معنا، بما في ذلك الحروب غير النظامية التي تستهدف المواطنين العزّل، كما حدث أخيرا في غزة.
لكن إسرائيل أصيبت بالذعر بمجرد إعلان احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية، وقامت على الفور بدهم أكثر من ثماني مؤسسات فلسطينية وقمع المحتفلين، واعتقال كثيرين بمن فيهم رئيس الحركة الإسلامية الشيخ رائد صلاح.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هبّت إسرائيل بهذه الصورة أمام هذه التظاهرة الثقافية؟ ولماذا تدخلت سلطات الاحتلال لمواجهة هذه المناسبة التي سلاحها الثقافة ولا شيء سواها، ولم تعهد بالأمر إلى بعض المتطرفين اليهود كما كانت تفعل دائما حينما تريد أن توقف أي نشاط كالمظاهرات السلمية مما لا يأخذ بُعدا عسكريا؟
يجب أن تُعيدنا الإجابة عن هذا السؤال إلى أهمّ سلاح حضاري افتقدته القضية منذ قيامها قبل أكثر من نصف قرن، حينما تمّ التركيز على المقاومة المسلحة على أنها هي كل أدوات التحرير المتاحة، رغم إيمان الجميع بأن ميزان القوة العسكرية لا يُمكن أن يكون لمصلحة الأمة العربية على الإطلاق بحكم الرعاية الدولية لتفوق إسرائيل العسكري كما ونوعا، فقد غاب عن الذهن العربي بحكم أدبيات المعارك التراثية التي (تجعل لنا الصدر بين العالمين أو القبر), أهمية الثقافة كسلاح مرعب، قد يكون في زمن المعلوماتية أكثر مضاء من السلاح النووي، وهو ما تنبه إليه الإسرائيليون حينما تصدوا بقوة لمنع فعاليات الاحتفال بالقدس كعاصمة للثقافة العربية، لأن الثقافة في ظل هيمنة قوة العدو وسطوة سلاحه ستكون وحدها القادرة على بناء الحق العربي بإعادته إلى التاريخ، وكشف زيف الادعاءات الصهيونية، من خلال الكتاب والمسرح والفنون، وهذا ما تخشاه إسرائيل، التي ما اهتز لها طرف جهة أسلحتنا في كل الحروب التي مرّت، لأنها تدرك أن هذا العالم الذي استفزته الصورة في عدوان غزة، لا يُمكن إلا أن تستفزه المعلومة والقيمة الحقيقية للثقافة التي تنبع من طين الأرض وركام الحروب الدموية.
لقد اعترفت إسرائيل برفضها هذه الاحتفالية السلمية وبشكل ضمني بأنها لا تخشى كل أسلحة العرب قدر ما ينتابها الفزع من تحريك الذراع الثقافية التي ستكشف أمام العالم كل الحقائق، وستجلي بالفن والتراث العربي المعجون بطين الأرض تاريخ هذا الوطن السليب، وقصصه وحكاياته، ما لم تستطع المفاوضات ولا المؤتمرات السياسية ولا الخطب المنبرية الكشف عنه، وهو ما قد يُعرّي قوة الاحتلال، التي تقدم نفسها للعالم كدولة ديمقراطية وسط غابة من العالم الفوضوي الذي تتحكم فيه الأطماع.
هذه المداهمات، وهذه الاعتقالات، وهذه المواجهات التي استهدفت منع هذه التظاهرة الثقافية، لا تعني إلا شيئا واحدا، وهو أن الإسرائيليين يعرفون أكثر منا قيمة الثقافة كسلاح سلمي حضاري في استرداد الحق، وكقوة فاعلة لا يُمكن لجمها إلا بالمنع, لأنها لو انطلقت فإنها ستفعل ما لم تفعله الجيوش العربية، وستعيد ليّ أعناق العالم إلى أن هذه القضية الملتهبة ليست مجرد مواجهة عسكرية بين قوتين، وليست مجرد صراع حول مجال حيوي، وإنما هي قضية هوية راسخة في صميم التاريخ, استطاعت إسرائيل بقليل من مكياج دولة المؤسسات والديمقراطية أن تطمس معالمه، أو تزوره لمصلحتها .. لذلك هي أشد رعبا من أن تواجه الفعل الثقافي بفعل مشابه، لأنها تدرك تماما أن الثقافة المتجذرة في أعماق أرض فلسطين كفيلة بإذابة ذلك المكياج، وكشف عورة كل ذلك الزيف أمام العالم في زمن تأخذ فيه المعلوماتية بزمام الأمور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي