هل تشيخ الأمم؟
المتأمل في أوضاع الأمم, والشعوب يجد العجب العجاب, وما يثير الدهشة والاستغراب, فالأمم في تقلب وتغير مستمر, ولا تكون على حالة ووضع واحد, فكم من أمة كانت ذات صولة, وجولة, وكتبت الكتب, والأسفار, وامتلأت أوراق الصحف, والمجلات حديثاً, وتداولاً لأخبارها, كما أن وكالات الأنباء, والإذاعات, ومحطات التلفزيون تنقل كثيرا من أخبار, وأحداث هذا البلد, أو تلك الأمة, لكن الأحوال لا تدوم على وضع وصورة واحدة بل تتقلب, وتأخذ صوراً متعددة, وتخضع لقانون المد والجزر الذي يحرك المياه بدلاً من استقرارها. نظرت إلى الوراء الموغل في القدم, وفتشت في كتب التاريخ, والأحافير, فألفيت أمماً, وأقواماً عدة لم يبق لهم وجود سوى ذكرهم, أو ما تبقى من معالم حضارتهم التي طمرتها الأتربة, وغيرت معالمها, وأشكالها عوامل التعرية من أمطار, ورياح, وغبار, وما تحمله من عناصر التدمير كالأحماض, إضافة إلى ما تفعله الحشرات, وكذا الإنسان بسلوكه, وتصرفاته التي تسهم في تدمير ما خلفه السابقون. عاد, وفرعون, وثمود أمثلة على أمم مرت على وجه البسيطة, وكان لها سلطانها, وجاهها وهيمنتها, كما كان قارون, وهامان لهما صولة, وجولة, وطغيان, وهيمنة, لكن لم يعد لهما من القوة, والمكانة, ولم يتبق إلا ذكرهما للموعظة, والاعتبار, وقد جاء من بعد هذه الأمم, وتلك الرؤوس أمم, ورؤوس أخرى إذ وجدت أمتا الفرس, والروم قبل الإسلام, وكان لهما من السطوة, والنفوذ, والاستبداد ما ملأ بطون الكتب, لكن الفتوحات الإسلامية أزالت عروش الدولتين, وقامت دولة الإسلام منتشرة في بقاع كثيرة من العالم, ومر على دولة الإسلام ما مر على الأمم الأخرى من ضعف وتشتت, وقامت ممالك, ودول بل ودمرت عاصمة الخلافة الإسلامية من قبل التتار, كما قامت الخلافة العثمانية واستمرت زهاء ثمانية قرون, وهي تحكم معظم البلدان الإسلامية, ووصلت حدودها حتى وسط أوروبا لكن فيروس سقوط الحضارات, والأمم لم يعفها من آثاره بل استوطن بها حتى سقطت, وقامت على أنقاضها دول شتى في كافة العالم العربي, والإسلامي. وفي بداية القرن العشرين سقطت دولة القياصرة في روسيا, وحل محلها الاتحاد السوفياتي معلناً بذلك عهداً جديداً من النظام الشمولي الاشتراكي مع ما صاحب ذلك من تأميم للممتلكات, واستبداد, ودكتاتورية بلغت الذروة في احتلال الدول, وغزوها, كما حدث في غزو تشيكوسلوفاكيا ثم في الثمانينيات غزو أفغانستان, ماذا حدث للاتحاد السوفياتي الذي سير مراكب الفضاء, وامتلك العدة, والعتاد من طائرات, وصواريخ, وقنابل تدمير شمولي لقد اختفى الاتحاد السوفياتي, وحلت محله دول أصبحت تشاغب بعضها, وتتحارب فيما بينها, ولا أدل على ذلك ما حدث بين روسيا, وجورجيا, وما يحدث بين روسيا وأوكرانيا, وكذلك بولندا خاصة في عزمها السماح للولايات المتحدة كي تنصب الصواريخ على حدودها مع روسيا, وهذا يهدد روسيا كوطن له تراب واحد, وثقافة, ونظام سياسي. التأمل في الواقع يحتاج لعين بصيرة لا تغفل التاريخ, وعبره وسنن الله في هذا الكون الذي لا يستقيم دون العدل, والقسط. موازين القوى المعتمدة على العناصر المادية قد تستمر لفترة لكنها لا تلبث أن تضعف, وينخر فيها الهرم, والشيخوخة التي تسقطها, كما أن الدول المفتقدة للقسط والعدل مصيرها السقوط والضياع, وكما يقول ابن خلدون بشأن الأمم فهي مثل الإنسان تمر بأطوار, ومراحل من النمو حيث تبدأ ضعيفة مثلها مثل الوليد الصغير ثم تكبر شيئاً فشيئاً, ويصلب عودها, وتشب, وتكون مليئة بالحيوية, والنشاط, ويقوى اقتصادها, وتكثر جيوشها, وتتعدد صنائعها, ومواردها, ومع هذا الوضع المادي تتضخم الذات الجماعية, وتسود الغطرسة بوحي من القوة التي تمتلكها الدولة مما يجعلها تمد يدها, وتنفش ريشها, وتمارس الاستبداد مع الآخرين وبمثل هذه الأفعال تكون قد غرست بذور الضعف, ومع استمرار هذه الأفعال تبدأ عوامل الهرم في إحداث آثارها حتى تكثر مصادر الإنفاق الجائر على السلاح, وغزو الأمم واستباحة حقوق الآخرين, ويكثر الأعداء, وتزيد كراهية هذه الأمة, أو تلك حتى تسقط, وتفقد مكانتها بين الأمم. تأملت في عالم اليوم فألفيت أن الولايات المتحدة قد مرت بالأطوار التي ذكرها ابن خلدون حيث نمت, وقويت, وبلغت مبلغاً عالياً من النفوذ السياسي, والاقتصادي, والعسكري, والمعرفي, حتى إن كثيرا من الناس ربما لا يخطر ببالهم, ولا يتوقعون أن يحدث لأمريكا ما حدث لغيرها من الأمم الغابرة بل, ويستبعدون أن يحدث لها ما حدث للاتحاد السوفياتي الذي تفكك وتقطعت أوصاله.
الرئيس باراك أوباما, وفي حفل تنصيبه قال كلمة توقفت عندها كثيراً حين قال عبارة السياسات اللامسؤولة مشيراً بذلك إلى سياسات سلفه الرئيس جورج بوش الذي أدخل الولايات المتحدة في حروب أنهكت أمريكا مادياً, وبشرياً وأسقطتها أخلاقياً في نظر سكان الأرض عموماً, إذ لم تعد أمريكا دولة القيم, والعدل, والحرية والتي كثيراً ما يرددها الساسة الأمريكيون في خطبهم, وأحاديثهم مع الآخرين. إن طرح أوباما بشأن الأسلحة النووية وضرورة تقليص مخزونها وإيقاف التجارب بشأنها يمثل تفكيراً جديداً من شأنه رسم توجه مختلف. لقد بدأ الأمريكيون يبحثون في القواميس, والمصادر المتوفرة سواء في الإنترنت أو غيره, حيث بدأوا يبحثون عن الإسلام, والاشتراكية, ومفاهيم أخرى لأنهم بدأوا يدركون الخلل الذي يحكم حياتهم التي أصبحت في يد مجموعة من أرباب الأموال, والشركات يتاجرون بهذه المفاهيم كيفما يشاؤون مع عدم الوعي بما تحدثه أفعالهم من هدم للأمة الأمريكية. إن غزو أفغانستان والعراق يمثل أقصى مشاعر الاستهتار بالآخرين الناتج من تضخم الذات, وصدق الله حيث يقول: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا". هل بدأت أمريكا رحلة الانحدار بحروبها, ومعاداتها ثقافات الأمم الأخرى, ومجافاتها سنن العدل, والحق؟! وهل يتدارك الأمريكيون واقعهم ويقلعون عن عداء الآخرين واستلابهم خيراتهم, وسعيهم المستمر للهيمنة؟!. تساؤلات لا يمكنني أن أجيب عنها عدا أن أمريكا أمة مثلها مثل الأمم الأخرى تنطبق عليها السنن الإلهية إن عاجلاً أو آجلاً.