رؤية للعالم قائمة على الانفصال وليس على الاتصال
أعتقد أن بإمكاننا الآن - بعد المقالات السابقة التي عرضنا فيها الأسس التي تقوم عليها نظرية الفرد عند المتكلمين المسلمين (معتزلة وأشاعرة)- أن نقرر أن هؤلاء قد كرسوا في الفكر الإسلامي العقدي نوعا من الرؤية التجزيئية للعالم، بمعنى أن العقل البياني العربي يتجه نحو الأجزاء وليس نحو الكل، وبالتالي فهو لا يهتم بالنظرة الشمولية (وبلغة الفلاسفة لا يهتم بالكليات بل بالجزئيات). هذه النتيجة تؤسسها المبادئ الثلاثة لنظرية الجوهر الفرد، وهي كما بينا في المقالات السابقة: 1) الأجسام لا تقبل القسمة إلى ما لا نهاية له، بل تقف القسمة فيها عند جزء لا يتجزأ هو "الجوهر الفرد". 2) بما أن الأجسام لا تخلو عن الأعراض، من لون وطعم وحركة وسكون ... إلخ، فكذلك الجواهر المكونة لها، فهي أيضا لا تنفك من الأعراض. 3) والعرض عندهم غير ثابت ولا مستقر بل هو في تجدد مستمر، ومن هنا المبدأ الثالث الذي يعبرون عنه بقولهم: "العرض لا يبقى زمانين"، بمعنى أن من طبيعتها الانفصال وليس الاتصال، فهي من عالم الأعداد والحساب، وليس من عالم الخطوط والهندسة.
ومن المسائل المرتبطة بهذا المبدأ، والتي اختلف حولها القائلون بالجوهر الفرد، مسألة ما إذا كانت الأعراض تقوم بالجواهر المؤلفة للجسم، كل على حدة، أم أنها تقوم بالجسم ككل؟ وهم يكادون يجمعون على أن الأعراض تقوم بكل جوهر على حدة وليس بالجسم ككل، فالجسم المتحرك والذي يلقى به في الهواء لا تقوم به الحركة بوصفه كلا أي جسما، بل بوصفه جواهر متجاورة، وبالتالي فالحركة ليست حركة الجسم بل حركة جواهره (أو ذراته). ومثل ذلك يقولون في الأعراض الأخرى مثل السكون والألوان، إلخ.
أما النفس والعقل والحياة، وهي أعراض أيضا (بمعنى أنها تعرض للإنسان) فيختلفون في أمرها: منهم من يقول إن النفس في الإنسان عرض قائم بجوهر واحد فقط من الجواهر التي يتألف منها جسمه. ووجود ذلك الجوهر الحامل لعرض النفس في جسم الإنسان هو معنى كونه ذا نفس. على أن منهم من يجعل النفس ذاتها جسما مؤلفا من جواهر لطيفة تقوم بها أعراض "بها تخصصت وصارت نفسها"، وأن هذه الجواهر اللطيفة التي تتكون منها النفس مخالطة لجواهر من له نفس. وأما بالنسبة للعقل فالإجماع قائم بينهم، أو يكاد، على أنه "عرض في "جوهر فرد" من الجملة العاقلة" أي في جسم الكائن العاقل. أما الروح فمحلها "كل جزء من أجزاء الجسم الذي فيه حياة وليس يختص بجزء دون جزء". وأما الحياة، فمنهم من يقول "يجوز وجودها في الجوهر الفرد" وهذا رأي الأشاعرة، ومنهم من يقول إنها "تحتاج إلى بنية (= جسم) ولا يصح وجودها في الجوهر المنفرد"، وهذا رأي المعتزلة. ولذلك نجد الأشاعرة يعتبرونها، كسائر الأعراض، لا تبقى زمانين: "وإنما تحدث حدوثا متصلا جزءا بعد جزء... وهي لا تنتفي عن المحل الحي إلا بوجود ضدها وهو الموت. وهو-أعني الموت- معنى يوجد بالميت". هذا بينما يقول المعتزلة إن الحياة من الأعراض التي تبقى، ما دام لم يحل محلها ضدُُّها وهو الموت. أما العلم فمنهم من يقول إنه عرض يقوم بكل جوهر من جواهر جسم الكائن الحي العارف، ومنهم من يقول إنه يقوم بجوهر واحد فقط.
أما القدرة والفعل فهما، مثل العلم والحياة ... إلخ، يقومان على الانفصال أيضا : فالفعل أجزاء لا تتجزأ تتألف منها جملته، وكذلك القدرة : "لا يجوز أن يفعل بها في وقت واحد في محل واحد من الجنس الواحد إلا جزءا واحدا". ويترتب عن قولهم هذا نتائج تخص الفعل البشري من حيث الحرية والاختيار، أو الجبر والكسب سنعرض لها بعد. لنضف أخيرا وليس آخرا أنهم يعتبرون الكلام كذلك عبارة عن أصوات مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ "تحدث عند إخراج النفَس من داخل الصدر إلى الخارج. فالإنسان عند إخراج النفَس، من داخل الصدر إلى الخارج، يحبسه في المحابس المعينة ثم يزيد ذلك الحبس فتتولد تلك الحروف في آخر زمان حبس النفَس وأول زمان إطلاقه. وفاصل ما بين الزمانين غير منقسم". وسنخص مسألة الزمان عندهم بقول مفرد.
***
تلك جوانب من الرؤية البيانية للعالم، الرؤية "العالمة" التي شيدها المعتزلة والأشاعرة على أساس نظرية "الجوهر الفرد" وما يتفرع عنها، أجملنا القول فيها إجمالا. بقي أن نشير إلى أن المنطلق في هذه الآراء كان "بناء الشاهد على صورة يمكن قياس الغائب عليه". لقد كانوا يجادلون فرقا دينية أخرى مثل المانوية ولما لم يكن من الممكن إقناعهم بما في القرآن من أدلة، لأنهم لو كانوا يؤمنون بالقرآن لما جادلوا في أسس العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد، بل هم مثنوية يؤمنون بإلهين (إله الخير وإله الشر) ولذلك تطلب الحوار معهم اللجوء إلى العقل، إلى الاستدلال بالشاهد (معطيات الحس والخبرة اليومية.. . إلخ) على الغائب (عالم الألوهية عالم المجهول). نعم قد تثير هذه الآراء الاستغراب العصر الحاضر: إما في اتجاه الإعجاب والتقدير لهذه "الفيزياء الكلامية"، أعني التي تعتمد مجرد التفكير في إطار من الجدل بعيدا عن التجربة المجهزة بالآلات، إلا التجربة الذهنية ... وإما في اتجاه النفور والتحقير واعتبارها "كلاما فارغا" عفَّى عليه الزمن لا قيمة له! ونحن نعتقد أن كلا الموقفين على خطأ : الموقف الأول مخطئ إذا هو أخذ ينظر إليها تحت ضغط "التشابه" بين بعض أجزائها وبعض نظريات العلم المعاصر، الذي تهيمن فيه اليوم مفاهيم "الجينات" و"النانو" وما أشبه؟ والموقف الثاني مخطئ كذلك إذا هو اعتبرها "كلاما فارغا" لافتقادها إلى شرط القابلية للتحقق بالتجربة المجهزة! ذلك أننا إذا طبقنا هذا الشرط على جميع المعارف منذ القديم إلى اليوم فإننا سنكون أمام كم هائل من المعارف التي لا تقبل التحقق بالتجربة، وفي مقدمتها جميع الفلسفات القديمة منها والحديثة، وجميع العلوم التي سبقت "العلم المعاصر". وهذا مفهوم: فتاريخ الفلسفة وتاريخ الآراء "الكلامية" (اللاهوتية) هي قراءة مستمرة لتاريخها الخاص، تماما مثلما أن "تاريخ العلم" هو "تاريخ أخطاء العلم" كما قال باشلار، وأيضا فإن الرأي المعاصر، في ميدان العلم أو في غيره من الميادين الإيديولوجية، سيصبح حتما، في يوم من الأيام، جزءا من أخطاء المعرفة الإنسانية، علوما كانت أو فلسفات أو إيديولوجيات... إلخ. ومن دون شك فإن الحكم بـ"الفراغ" على نوع من المعارف، التي شيدها الإنسان في زمن سابق من أجل أن يفهم العالم ويعي وضعه فيه، حكم سيكون مصيره هو نفسه السقوط في هاوية الفراغ، إن لم يكن ينطق الآن من قاع هذه الهاوية نفسها.