نهاية عصر اقتصادي
لم تكن الأزمة المالية التي انفجرت في الولايات المتحدة هي السبب المباشر في الكساد الذي أصابها ثم انتقل منها ليعم العالم. الحقيقة أن أزمة المال هي نتيجة وليست سببا. السبب الحقيقي يرجع إلى مرض اقتصادي أصاب الاقتصاد الأمريكي منذ عهد الرئيس ريجان في بداية ثمانينيات القرن الـ 20، حين تبنى سياسات أدت إلى زيادة الإنتاجية وتقييد الأجور، كان من أهمها: حرية التجارة، الضرائب التنازلية، واندماج الشركات.
كان الاقتصاد الأمريكي في أوج تألقه في الخمسينيات والستينيات من القرن الـ 20، نظرا لمحافظة الولايات المتحدة على توازن ميزانها التجاري، ولتبنيها سياسات مكافحة الاحتكار بتقسيم الشركات الكبيرة، (مثل تقسيم شركة أكسون- موبايل إلى شركتين)، ولأخذها بمبدأ الضرائب التصاعدية التي يقع عبؤها على الأغنياء أكثر من الفقراء.
لكن بداية من الثمانينيات، لاحظ عدد من الاقتصاديين المرموقين أن سياسة العولمة وحرية التجارة أدت إلى زيادة كبيرة في واردات الولايات المتحدة وإلى تفاقم العجز في ميزانها التجاري. في حين أدت الضرائب التنازلية (الارتدادية regressive) إلى زيادة العبء الضريبي على الفقراء وقلتها على الأغنياء. وعندما يكون المال دُولة بين أغنياء المجتمع، لن يجد عامة الناس معهم ما يكفي لشراء حاجاتهم فيتدهور طلبهم، ومن ثم ينخفض معدل نمو الاقتصاد. والنمو البطيء يولد ضغوطا على الأجور، لأن النمو الضعيف يعني طلبا ضعيفا على العمال مقارنة بعرض العمالة، فتنخفض الأجور. والسبب الثالث كان تشجيع اندماج الشركات ومعارضة مطالب اتحادات العمال. ويتولد عن الاندماج الاستغناء عن عدد من الموظفين، وهذا بدوره يولد ضغوطا إضافية لانخفاض الأجور، ويزيد في الوقت نفسه من نمو الإنتاجية، فيتسع حجم الفجوة بينهما. ونظرا إلى أن الإنتاجية هي المصدر الأساس للعرض، والأجور هي المصدر الأساس للطلب، فإن اتساع الفجوة بين الإنتاجية والأجر الحقيقي يعني نمو العرض بمعدل أعلى من الطلب، الأمر الذي يولد مشكلة فائض الإنتاج. ولمنع حدوث هذا الفائض الذي لا يقابله أجور حقيقية قادرة على شرائه، ولتجنب انكماش الاقتصاد الأمريكي، تم تشجيع فكرة توسيع الديون العامة والخاصة، فهي التي ستمكّن الناس من رفع طلبهم ليعادل العرض المرتفع.
وبدأوا أولا بتوسيع الدين الحكومي، ثم جاء جرينسبان في البنك المركزي ولجأ إلى تخفيض الفائدة كلما لاح في الأفق فائض في الإنتاج (كما حدث أثناء تراجع سوق الأسهم عام 1987)، فدفعوا الناس إلى الاقتراض أكثر، وهذا وسّع من ديون الأفراد ورجال الأعمال بدرجة كبيرة ليضاف إلى ارتفاع الدين الحكومي. وكل هذا أدى إلى تأجيل انفجار مشكلة اتساع الفجوة بين الإنتاجية والأجور، فقد قابل زيادة الإنتاجية زيادة في الدين بدلا من زيادة الأجور فتأجل الانفجار. كانت الإنتاجية تزيد بمعدلات أسية كبيرة، وكذلك كانت الديون! وفي مثل هذا الوضع ليس من الصعب أن نتخيل اليوم الذي تؤدي فيه زيادة الديون إلى انفجار الوضع المالي، وهذا ما بدأ يظهر ابتداء من عام 2007م.
هذا الوضع جعل الأمريكان على مدى ثلاثة عقود يستوردون أكثر مما يصدرون، وينفقون أكثر مما يدخرون، ويقترضون فوق ما يستطيعون. وغدا الاقتصاد الأمريكي يعتمد في نموه على فقاعات. وتصريحات الرئيس أوباما الأخيرة أكدت ذلك، فقد قال: مع أننا نركز على إصلاح النظام المالي وسوق الائتمان، إلا أننا نمهد لوضع أسس عالم ما بعد النمو الاقتصادي المعتمد على خلق فقاعات market post-bubble economic growth، وأضاف لقد انتهى العصر الذي كان الاقتصاد الأمريكي يعتمد في نموه على خلق فقاعة في سوق العقار، وعلى رفع مستوى الإنفاق الاستهلاكي الفردي بالاعتماد على توسيع الائتمان.
ويعتقد عدد من الاقتصاديين ـ كالبروفيسور Ravi Batra من جامعة
Maverick Southern Methodist ـ أن نجاة الاقتصاد الأمريكي تكمن في العمل على وقف هبوط الأجور الحقيقية للأفراد. أما سياسات تسهيل الائتمان فلن تحل الإشكال! فالبنوك لا تمنح الائتمان عندما تشعر أنها غير قادرة على استعادة أموالها التي أقرضتها. صحيح أن الاقتصاد الأمريكي في حاجة إلى توسيع الإنفاق الحكومي لوقف تدهور الطلب الكلي، بيد أن سياسات التحفيز المتبعة ستؤدى إلى تقليل اتساع جرح الاقتصاد دون أن تعالج أصل الداء. فإذا بقيت الأسباب التي قادت إلى هذه الفجوة بين الإنتاجية والأجور دون علاج، فإن سياسات التحفيز قد تخفف من حدة الكساد لكنها لن تنهيه.
كتب هذا المقال قبل انعقاد مؤتمر العشرين في لندن، لكن جدول أعماله بات واضحا لي، ومهما كانت نتائجه، فالمؤكد أن الولايات المتحدة ستفقد قدرا من قوتها، وستكون هذه الأزمة حدا فاصلا بين عصر اقتصادي وآخر، وستستميت كل دولة في الدفاع عن مصالحها، وعلينا مراقبة التطورات بعين فاحصة واستغلال الفرص، وعدم تقديم تنازلات في علاقاتنا الدولية دون مقابل.