الاختلاف ليس من حق "مجموعة العشرين"!
بين قمة "مجموعة العشرين" في واشنطن، وقمة المجموعة في لندن 138 يوما فقط. شهد فيها العالم متغيرات وتحولات وتداعيات، تحدث عادة خلال عقود من الزمن، وبصورة متفرقة. الأمر الذي يجعل من مسؤولية بلدان المجموعة، مسؤولية متعاظمة، تتطلب حكمة متعاظمة، ورؤية متماسكة. لا مجال للأنانية في هذه القمة، ولا مساحة للمصالح الوطنية الصرفة، ولا مكان لجني "الأرباح" الانتخابية. إنها قمة.. إما أن تكون وإما ألا تكون. وإما أن تلبي طموحات العالم – بل تنقذ هذا العالم- وإما أنها ستتحول إلى مجرد اجتماع دولي تسوده التمنيات.. ومعها الاتهامات. هذه المجموعة التي تسيطر على 90 في المائة من الاقتصاد العالمي، وتتمتع بـ 80 في المائة من حجم التجارة الدولية، تسيطر أيضا على القرار الدولي، الذي يزداد أهمية كلما ارتفعت وتيرة الأزمة الاقتصادية العالمية، وكلما وقع قطاع ما ضحية لها. ولأنها بهذا المستوى، وهذا الحجم، فإن فشل أي اجتماع لها – على أي مستوى - لن يكون مؤذيا.. بل قاتل. فما يحتاج إليه العالم في هذه المرحلة، الحلول التي ترقى إلى هامات دول وقادة "مجموعة العشرين"، خصوصا مع وجود إدارة أمريكية تسعى إلى التوصل لهذه الحلول بالتعاون الدولي، لا بالاتفاق مع الذات! وبعيدا عن عنجهية مارستها الإدارة الأمريكية السابقة، حتى مع حلفائها.
إن دعوة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لـ "عمل عالمي" من أجل مواجهة الأزمة، ولا سيما أنها أتت من خلال رسالة رئاسية (غير مسبوقة) نشرتها 31 صحيفة حول العالم، تعزز من الخطوات التي ستقدم عليها "مجموعة العشرين"، وتضع واشنطن نفسها أمام مسؤولياتها الدولية. ومن هنا يمكن أن نلاحظ الفارق بين الخطاب الأمريكي في قمة واشنطن (في عهد جورج بوش الابن)، وخطاب أوباما الذي سبق قمة لندن. فهذا الأخير أقر بدور بلاده في الأزمة العالمية، بينما أنكر سلفه هذه المسؤولية، بعدما أنكر في بدايات الأزمة، وجود هذه الأزمة أصلا. وإذا كان أوباما يرى مسؤولية أمريكية في الكارثة، يرى وزير خزانته تيموثي جاثنر، أن العالم يحتاج إلى رؤية "أمريكا متحدة" خلف التزام يوازي حجم المشكلة. ومضى أبعد من ذلك حين قال: "نريد أن يكون الانتعاش في أمريكا مدعوماً بانتعاش في العالم". إنها مواقف لم يكن أحد يتصور أن تبرز في عهد الإدارة السابقة.
وعلى هذا الأساس.. يمكن العمل ضمن نطاق "مجموعة العشرين"، مع غياب "التكبر" الأمريكي، بعد أن رحلت الحماقة من البيت الأبيض إلى غير رجعة. نحن نعلم أن 17 دولة - إضافة إلى الاتحاد الأوروبي – من تلك المنضوية تحت لواء "العشرين"، اتخذت مواقف سيئة للغاية فيما يرتبط بتقييد حركة التجارة على حساب بقية دول العالم أجمع، ونعلم أيضا أن المملكة العربية السعودية واليابان وجنوب إفريقيا، هي الدول الوحيدة من "العشرين" التي رفضت فرض قوانين حمائية جديدة، في نطاق التعاون الدولي. لكن الوضع الذي كان في عام 2008 يختلف عن الوضع الذي يسود العالم في العام الجاري، ليس فقط من جهة التحول الأمريكي الإيجابي على صعيد المواقف، وقبول الآخر كرقم أساسي لا هامشي، بل أيضا بسبب المتغيرات المتواصلة – دون توقف – التي تخلقها الأزمة العالمية بشكل عام. وقضية " الحمائية" بالذات يمكن أن تكون مؤشرا للإخفاق أو النجاح في قمة لندن. فعلى الدول المتعاونة في هذا المجال، أن تذكر تلك غير المتعاونة – وهي الكبرى وزنا واقتصادا – بأن تتصرف بحجمها. فلا نقص في تصرفات الصغار في هذا العالم. المطلوب كثير من الجهود، وكثير من العمل، وكثير من التعاون، مع أعلى درجة من الأخلاق. ليس من المعقول أن تترك الأمور خارج سيطرة "مجموعة العشرين". هذا لا يعني أني أقلل من مستوى وقيمة الدول الأخرى، بل لأن "العشرين" تملك أدوات الحل، كما تمتلك مقادير الاقتصاد العالمي، إضافة طبعا إلى المرونة الأمريكية الظاهرة للعيان في الوقت الراهن.
في عام 1931 استضافت لندن قمة اقتصادية عالمية، خصصت لبحث الكساد الكبير الذي ضرب الولايات المتحدة وبعدها العالم آنذاك. هذه القمة فشلت، وتسبب فشلها في استمرار الكساد لسنوات طويلة، كان بإمكان قادة العالم في ذلك الزمن تقليلها. اليوم لا يواجه العالم كسادا أو ركودا أو تباطؤا – إلى آخر التسميات – بل يحارب كارثة اقتصادية ألمت بالجميع، ولم توفر أحدا. وإذا كان فشل قمة لندن 1931 أفرز سنوات إضافية من الكساد، فإن فشل قمة لندن 2009، لا أبالغ إن قلت: سينتج عقودا من المصائب، التي ستفجر بدورها الكراهية والحقد والشكوك، بين دول العالم، ولا سيما بين تلك التي تنظر إلى الكبار.. ككبار، وبين الكبار أنفسهم. مرة أخرى.. لا يحق لـ" العشرين" الاختلاف في النتائج. يحق لهم أن يتخلفوا ويجادلوا.. بل يتهموا. لكنهم – بعد ذلك - مطالبون بتقديم نتائج لا تحاكي اليوم بل تتناغم مع المستقبل.
وإذا كان مؤتمر "بريتون وودز" الذي عقد في الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية (أودت الحرب بحياة 50 مليون إنسان)، أقر نظام "بريتون وودز" الشهير، الذي شكل الخريطة الاقتصادية للعالم، واستمر هذا النظام بشكل أو بآخر إلى يومنا هذا، فإن قمة لندن يجب ألا تخرج بأقل من نظام عالمي يعيش لعقود طويلة، أو في أسوأ الأحوال، ينبغي ألا تخرج القمة بشيء أدنى من مجموعة معاهدات واتفاقات دولية، ليس فقط من أجل مواجهة الأزمة – الكارثة، والتمكن منها، بل أيضا من أجل رسم معالم الاقتصاد الدولي للعقود المقبلة.
إن الفارق بين نظام "بريتون وودز"، وأي نظام آخر يتفق عليه العشرون الكبار، إنه وضع على أيدي الدول المنتصرة في الحرب الثانية. لكن هل من منتصر الآن في الأزمة الاقتصادية العالمية؟