مبيدات حشرية أم بشرية
ينتشر استخدام المبيدات الحشرية في جميع مناطق العالم. وثبتت جدوى المبيدات في مكافحة الحشرات والقوارض وخفضت بدرجة كبيرة من المخاطر التي تتسبب بها هذه الكائنات في المزارع والمنازل والمخازن والمتاجر وأماكن التجمعات البشرية. وأسوةً ببقية المنتجات الكيماوية، يصاحب استخدام المبيدات الحشرية أضرار ومخاطر جانبية كثيرة وبعضها خطير على البيئة والحياة البشرية والحيوانية. وتتوقف درجة المخاطر على نوع المبيد المستخدم ومدة وأسلوب وكثافة استخدامه. وأدى مثلاً الاستخدام الطويل لمادة الدي دي تي DDT بكثافة في السابق إلى إحداث أضرار بالغة على حياة الإنسان والبيئة، ما دفع معظم دول العالم إلى تحريم استخدامه.
وفي الآونة الأخيرة أدت وفاة طفلين دانمركيين في مدينة جدة إلى إحداث ضجة كبيرة حول استخدام أحد المبيدات الحشرية بل وإلى إثارة نقاش حول أسلوب وطريقة استخدام المبيدات الحشرية في المملكة. وقد تسبب استخدام المبيد الحشري فوسفيد الألمنيوم AlP في أحد المنازل المجاورة لسكن عائلة الطفلين في تسمم العائلة بأكملها ونجا الأبوان, ولكن لم يتمكن الطفلان من النجاة ولقيا حتفهما بسبب التسمم الذي نتج عن استخدام هذا المبيد. ومادة فوسفيد الألمنيوم مادة شديدة السمية تستخدم ضد الحشرات والقوارض وتصنفها وكالة حماية البيئة الأمريكية على أنها مادة سامة من الدرجة الأولى، ولهذا يخضع استخدامها إلى شروط معينة منها ضرورة الحصول على ترخيص معين ووفق ضوابط استخدام معينة. وينبغي تحاشي استخدام هذه المادة في مكافحة الحشرات داخل المنازل لتسببها في تصاعد غاز الفوسفين السام الذي قد يتسبب في الوفاة في حالة التعرض المباشر له. وتكفي كمية قليلة ( أكثر من ثلاثة أجزاء في المليون) من هذا الغاز للتسبب في الموت وليس له علاج.
وقد أدى جشع بعض الشركات المرخص لها باستيراد هذه المادة إلى تسريب هذا المبيد الخطر إلى مؤسسة مكافحة الحشرات التي استخدمتها في رش المنزل المجاور لسكن الطفلين، والتي لم تتخذ احتياطات السلامة المصاحبة لاستخدام مثل هذا النوع من المبيدات الخطرة. ولا أحد يدري إذا كان الطفلان المفقودان هما الضحيتين الوحيدتين لهذا المبيد. فمن المؤكد أنه قد سبق لبعض مؤسسات مكافحة الحشرات استخدام هذا المبيد في أماكن أخرى، ومن الممكن أيضاً تسببه في وقوع ضحايا أو إصابات لعدد آخر من البشر أو الحيوانات دون علم أو إدراك لسبب الإصابات سواءً لدى الضحايا أو الجهات المسؤولة.
وتحاول بعض مؤسسات مكافحة الحشرات إثبات وجودها من خلال استخدام مبيدات عالية السمية أو بتكثيف الرش فوق مستويات الأمان المطلوبة أو أخذ احتياطات السلامة اللازمة لحماية البيئة والحياة البشرية أو الحيوانية. وتؤدي مثل هذه الممارسات إلى إحداث أضرار بالغة على الصحة والبيئة. ولا يقتصر سوء استخدام المبيدات الحشرية على مؤسسات مكافحة الحشرات بل إنه ينتشر بشكل واسع في المملكة. فالمبيدات الحشرية تباع بشكل واسع وبحرية وفي كثير من الأحيان بدون أية ضوابط. وهناك مخاوف كبيرة من إساءة استخدام المبيدات في رش الآفات الزراعية سواءً في المملكة أو الدول المجاورة التي تستورد منها المملكة المواد الغذائية، والتي قد تتسبب في آثار سيئة على الصحة. وتقوم البلديات بعمليات الرش الضبابي للمبيدات الحشرية ودون سابق إنذار وفي أوقات غير ملائمة. ففي مدينة الرياض مثلاً تقوم البلديات بعمليات الرش الضبابي في بعض الأحياء السكنية في وقت يتزامن مع خروج تلاميذ المدارس للدراسة وأحياناً في محيط المدارس. وتتسبب هذه العملية بأضرار صحية وخصوصاً لمن يعانون أمراض الحساسية والربو وباقي أمراض الجهاز التنفسي. وأعتقد أن على البلديات التوقف عن الرش الضبابي العشوائي وغير الدقيق, وعليها إعلام سكان الأحياء التي ينبغي رشها والالتزام بتوقيت معين, وتزويد السكان بالإرشادات اللازمة لتلافي الآثار الخطرة للمبيدات الحشرية.
ويمكن الحد من الآثار الجانبية السيئة لاستخدام المبيدات الحشرية من خلال تبني بعض الإجراءات، والتي من أهمها ضرورة وجود مرجعية للكيماويات في المملكة تتمتع بصلاحية تصنيف المواد الكيماوية وتحديد ضوابط استخدامها وقنوات تسويقها. ووضع المزيد من الضوابط لعمليات رش المبيدات والتأكد من التزام المؤسسات المسؤولة بهذه الضوابط. ومن هذه الضوابط التي ينبغي تبنيها، تحديد نوعية وكمية وطريقة استخدام المبيدات الحشرية التي تستخدم في المنازل أو أماكن التجمع البشري كأماكن العمل والدراسة. وينبغي إخطار سكان المنازل المجاورة لعمليات رش المبيدات (وخصوصاً الملتصقة بالأماكن المرشوشة) وضرورة ذكر اسم المبيد ونوع الاحتياطات التي يجب على السكان أخذها لتلافي المخاطر المصاحبة. ومن الأفضل وضع ضوابط على نوعية ومهنية عمالة الرش والتشديد على تدريبها واجتيازها لبعض الاختبارات المهنية لتمكينها من القيام بعمليات الرش المنضبطة واتخاذ إجراءات السلامة اللازمة. وتهدف مثل هذه الإجراءات إلى توفير حد أدنى من الحماية للسكان والبيئة والعمالة.
ومما يثير الغرابة مستوى العقوبات المتدني الذي فرضته وزارة التجارة على الشركات الجشعة التي تسببت في تسرب مادة فوسفيد الألمنيوم. فقد فرضت الوزارة غرامات مالية تراوح بين 20 و60 ألفا على أربع شركات منسوب إليها جناية تسريب هذه المادة السامة. ولم يكن هناك أي ذكر لعقوبات جزائية في حق الأفراد الذين وجهوا بتسريب هذه المادة والذين ارتكبوا جرائم أقل ما يمكن أن يقال إنها جرائم القتل الخطأ, وقد تصل إلى حد القتل شبه العمد، إذا كان هناك تعمد تسريب لهذه المادة القاتلة مع العلم المسبق بعدم قدرة المؤسسات المهرب إليها على التعامل الآمن مع هذه المادة السامة. إن الاقتصار على العقوبات المالية الهزيلة تفتح الباب على مصراعيه للمخالفين بالاستمرار في تسريب المواد الخطرة. وقد يوحي مثل هذا المستوى من العقوبات للمخالفين بانخفاض مستويات حزم ومهنية الوزارة في هذا الخصوص.
إن الموارد البشرية والبيئية هي أهم الأصول التي تملكها بلدان العالم. والمحافظة على هذه الأصول وحمايتها وتنميتها هو الهدف الأساسي السامي الذي يقف خلف إنشاء كل المؤسسات العامة. وينبغي على المؤسسات العامة العمل وباستمرار على ضمان قيام المؤسسات الإنتاجية بجميع أشكالها بمراعاة سلامة الموارد البشرية والبيئية. ومن المؤكد أن كفاءة المؤسسات العامة في تطبيق ضوابط السلامة والأمان في استخدام المبيدات الحشرية سيحد من تحولها إلى مبيدات بشرية.