المدارس المعرفية

إن درس التاريخ أكثر من رائع, وينفعنا فيه قانون الغزالي عن المسح الراداري للعصر، ففي القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي كان العالم الإسلامي ينهار, واكتمل الانهيار في منتصف القرن الثاني عشر بقرني الخلافة؛ في الغرب إشبيلية عام 1248م بالمنجل الصليبي، وفي الشرق بغداد تجرف بالحصادة المغولية.
وفي هذا الوقت العصيب ولد الغزالي فارتسمت معاناة القرن في مخيلته، وأدرك أن الانهيار الخلقي والعقلي هو أرضية الانهيار السياسي، فصدم واعتزل ثم خرج، وكتب المنقذ من الضلال يمسح أهم أربعة تيارات في عصره: المتكلمة والفلاسفة والباطنية والمتصوفة.
وكتب تهافت الفلاسفة، ليأتيه الجواب من الغرب في تهافت التهافت من ابن رشد.
كما هو الحال بين نقد العقل في المغرب على يد الجابري، ليأتيه الرد في نقد النقد من الطرابيشي المشرقي, وكلاهما جهد مزكى ومحترم.
وفي الوقت الراهن ومن خلال عرض هذا الكم الضخم من العمل الموسوعي، الذي أحاول سرده بين الحين والآخر؛ زاعما لنفسي مهمة السفسطائيين حسب تعبيرات الوردي، عالم الاجتماع العراقي، الذي رأى فيهم أنهم ليسوا متلاعبين بالعقول بلهم ميسرو الثقافة الشعبية ومبسطو العلوم، وأنا أحاول في هذه المهمة, أو هكذا أزعم؟؟
وعمل من هذا النوع نزعمه لا يقارن فيه عمل الغزالي، فهو يهدف إلى مسح العصر بعد أن لم يبق أربعة اتجاهات، بل لا يقل عن أربعين اتجاها تحتاج إلى عشرة مضغوطين في واحد من أمثال الغزالي القديم؟
وما مر يدفعنا باتجاه قانون المدارس المعرفية:
ففي القراءة يجب الانتباه إلى التكوين العقلي لكل كاتب, هل هو كاتب وكتاب أم منهج ومدرسة؟ كما في عالم الاجتماع العراقي، والشحرور الشامي، وجودت سعيد داعية اللاعنف السوري، والفيلسوف المعرفي السعودي البليهي، ومالك بن نبي الجزائري، والنيهوم الليبي، وعلي حرب اللبناني، والجابري المغربي, وفؤاد زكريا المصري. وهي عينات وليست نهاية الأشياء والعلوم، فالعالم العربي فيه عشرات العقول المبدعة، ولكن الاتجاه العام للعلم كنسق معرفي لم يتشكل بعد في العالم العربي.
وأما الفلسفة رحم العلم فهي قانون العودة للطفولة مع الفلسفة:
الطفل يضع الأسئلة الضخمة كالجبال، لماذا نولد؟ أين نذهب من أين نأتي؟ ويتكلم الطفل بعفوية ويراقب بروح الدهشة والفضل فيتعرف في المحطة والقطار على من حوله من الآباء العابسين، حتى يصاب بعدوى المرض فينكمش وينطفئ.
والفلسفة هل تلك الروح الطفولية من التعلم وعدم الكف عن السؤال ومن دون خوف؟
وكثيرا ما أفكر في قانون الكم التراكمي والتغير النوعي:
أكاد لا أصدق نفسي أحيانا وأنا أستعرض كمّ الكتب الجيدة التي قرأتها منذ نعومة أظفاري، وبعضها ضاع؛ فأنا عليه حزين، وبقي في الذاكرة منطبعا؛ فهي مكتبتي؟
هكذا أنا أكتشف نفسي يا سبحان الله.
وكذلك الحال في الكم المعرفي المتراكم؛ فمن واظب بنى نفسه معرفيا دون توقف، فوصل عتبات من المعرفة رائعة، وعوالم بهيجة من الفكر، مثل من اعتلى جبلا ورأى المناظر أمامه من علو.
وكذلك الإشراف المعرفي بعد تحليق رحلة أربعين عاما مع الكتب في مغامرات وادي الأفكار؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي