الأزمة العالمية: بعد أن عرضنا للجذور...إليكم الحلول!

بعد أن عرضنا في مقالنا السابق للجذور الحقيقية للأزمة العالمية الراهنة، وكيف أن أزمات القطاع المالي والمصرفي والعقاري لا تعدو أن تكون تفريغاً لأزمة أعمق وأخطر إلا وهي أزمة الليبرالية الجديدة ومعيار الدولار، وما ترتب عليهما ومن إحداث اختلالات خطيرة وغير مسبوقة سواء في هيكل الاقتصاد الأمريكي أو المبادلات الدولية، فالاقتصاد الأمريكي (معقل الأزمة كالعادة)، ومع مطلع الألفية، بات مهيأً للانهيار، بعد أن تحول إلى اقتصاد ريعي وتراجعت فيه حصة قطاع التصنيع (الإنتاج الحقيقي) من الناتج المحلي من 33 في المائة عام 1975م إلى نحو 13 في المائة عام 2008م، كما تراجعت فيه أعداد العمالة الصناعية من نحو 19 مليون عامل عام 1969م إلى نحو 13 مليون عامل بنهاية عام 2008م، في الوقت الذي زادت فيه قوى العمل الأمريكية من نحو 79 مليون عامل إلى 145 مليون عامل خلال الفترة نفسها!!!
إنه تحول خطير، فبعد أن أُفرِغ الاقتصاد الأمريكي من مضمونه، لم تجد رؤوس الأموال الأمريكية والأجنبية المتدفقة للسوق الأمريكي سوى قطاعات ريعية وخدمية خاصة بعد انهيار أسهم شركات الاتصالات مطلع الألفية، ولهذا لم يتبق أمام المقامرين سوى القطاع العقاري الذي ظل خاملاً لعقود، وهنا لم تفوت المصارف وشركات التأمين الأمريكية الفرصة بعد أن باتت مطلقة اليد في ظل الليبرالية الجديدة...ولهذا تشكلت الفقاعة إلى أن وصلت إلى ذروتها فحدث الانهيار...هذه هي الحكاية كما نقول نحن المصريين "من طأطأ لسلامو عليكو" دون سفسطة أو جدل غير مفيد.
ولهذا وبعد أن وضعنا أيدينا على أسباب وجذور المرض – وهذه وظيفتنا كاقتصاديين – علينا أن نقترح الحلول، وهي ليست بالحلول السهلة... فالحلول ستكون بوزن وعمق المشكلة نفسيهما... وعليه، نضع المقترحات التالية أمام متخذ القرار (الوطني والعربي والدولي)، خاصة ونحن في هذه المرحلة الحرجة في تاريخ الاقتصاد العالمي:

أولاً: وكخطوة أولى، ينبغي الإعداد بجدية من الآن للخروج من عباءة معيار الدولار Dollar Standard، الذي دمر هيكل الاقتصاد الأمريكي، وأنهك معه الاقتصاد العالمي. إن الأزمة الراهنة، توفر فرصة نادرة لإجراء تغيير حقيقي، ومن ثم يلزم إقناع الولايات المتحدة – وهي في ضعفها الشامل الآن – للقبول بنظام مالي ونقدي عالمي جديد، محكوم بسلة عملات (ترتبط بالذهب) لا تتعدى حصة الدولار فيها 25 في المائة، وفي التالي يمكن أن نضمن عدم تحكم الولايات المتحدة في مقدرات الاقتصاد العالمي مرة أخرى. إن معيارا جديدا للذهب أمام سلة عملات يطرح نفسه بقوة ليكون خليفة لمعيار الدولار الحر. وكخطوة أولى، فإن الدول النفطية مدعوة لاتخاذ خطوة جدية في هذا الخصوص، بأن يتم ابتكار آلية جديدة لا يكون للدولار فيها تأثير واضح، وهو توجه سيضمن تحرير السياسات المالية والنقدية لهذه الدول من سطوة الدولار الذي قيدها لعقود. إن هذا التوجه لن يضمن فقط استقرار وعدالة المبادلات الدولية، ولكنه سيحث الأمريكيين على العمل كباقي الشعوب، والموازنة بين الإنتاج والاستهلاك والادخار، ومن ثم القضاء على مختلف المشكلات التي تعتصر الاقتصاد الأمريكي.
ثانياً: ارتباطاً بالتوصية أعلاه، ينبغي العمل على التحلل تدريجياً من ربط عملاتنا واقتصاداتنا بالاقتصاد الأمريكي غير المتوازن والضعيف أمام القوى الصاعدة، والدولار الأمريكي الواهن أمام عملات واعدة، مثل اليورو واليوان والين. ففي ظل تنامي التوقعات – بل الممارسة العملية حتى قبل وقوع الأزمة – بحلول اليورو محل الدولار كعملة احتياط دولية رئيسية، يلزم قيام الحكومات بتنويع سلة الاحتياطيات والمبادلات الدولية، من خلال سلة متوازنة، تضم اليورو والين والدولار واليوان، كل ذلك بما يتوافق وهيكل الواردات لكل دولة أو مجموعة دول.
ثالثاً: أوضحت الأزمة العالمية أن هناك خللاً هيكلياً في اقتصادات الدول المتقدمة وتحديداً الولايات المتحدة، حيث تمت إزاحة قطاعات التصنيع والإنتاج الحقيقي وحلت محلها قطاعات خدمية فقاعية تسلقية، في وقت شهدت فيه الدول حديثة التصنيع في آسيا نمواً لافتاً لقطاعات الإنتاج الحقيقي، ومن هنا شهدنا خللاً غير مسبوق في المبادلات الدولية، ومن ثم فإن الدول المتقدمة وتحديداً الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة اقتصادياتها ليعود التوازن بين مختلف القطاعات الإنتاجية، ومن ثم حماية الاقتصاد من الأزمات.
رابعاً: على المستوى التجاري، وخاصة فيما يرتبط بمنظمة التجارة العالمية واتفاقاتها؛ على الحكومات المختلفة، وخاصة حكومات الدول النامية، مراجعة مختلف الاتفاقات والتعهدات، خاصة تعهداتها والتزاماتها أمام منظمة التجارة العالمية، والتحرك مستقبلاً في ضوء ما يخدم مصالحها، فلن تخسر هذه الدول أكثر مما خسرته بسبب هذه الأزمة. فقد دفعت الأزمة مختلف الدول إلى تنحية أغلب اتفاقات هذه المنظمة جانباً، حيث وضعت كل دولة ترتيبات حمائية، تضمن تعافي اقتصادها السريع وغير المكلف، خاصة في ضوء التحرك الفردي غير المنظم من قبل الدول المتقدمة، لتقديم حِزم إنقاذ لمختلف القطاعات التنموية، وهو وضع سيجعل المنتِج الغربي في وضع تنافسي أفضل من نظيره في الدول النامية، ومن ثم قيام علاقات تجارية غير عادلة. لذا وجب التحرك، وعدم الانصياع إلى الحجج الواهية التي تساق سواء من قبل بقايا الليبراليين الجدد أو منظمة التجارة العالمية. ينبغي على كل دولة أن تزن الأمور، وتتخذ القرارات التي تتوافق مع متطلبات اقتصادها، لذا ينبغي أيضاً وقف التفاوض على اتفاقات جديدة "مثل جولة الدوحة"، إلى أن تتكشف الأمور وتتضح معالم النظام الاقتصادي العالمي الذي سيولد من رحم الأزمة.
خامساً: وفيما يختص بسياسات التحرر الاقتصادي والتجاري، تعرض كثير من الدول النامية لتحديات كبيرة نتيجة تحرير قطاعات الإنتاج وتحرير التجارة في السلع، وخاصة في مجال صادرات السلع الأساسية والغذائية. تضاعف هذا الضرر عندما حلت أزمة الغذاء العالمي التي سبقت الأزمة الراهنة. ولهذا، ينبغي – على سبيل المثال – الإعداد بجدية من الآن لوضع استراتيجيات زراعية، تلبي في المقام الأول احتياجات الأسواق المحلية من السلع الأساسية، وخاصة القمح والأرز ومصادر الزيوت النباتية، مع فرض القيود الجمركية على الصادرات من تلك المنتجات الأساسية، ومنع تخصيص الأراضي الزراعية لإنتاج السلع غير الأساسية، وإحلال المحاصيل الأساسية محلها، بما يضمن في النهاية تشبع السوق استقرار الأسعار، ووصولها للمستهلك بسعر عادل ومتوازن، ثم ما تبقى يوجه لأسواق التصدير، وكل هذا يتطلب العودة جزئياً إلى سياسات التوجيه في القطاع الزراعي. وما قيل بالنسبة للتدخل في القطاع الزراعي ينبغي أن ينصرف إلى باقي القطاعات بما يضمن إعادة الاستقرار للأسواق، ولكن دون افتئات كبير على مبادئ الحرية.
سادساً: على مختلف الدول – وخاصة الدول النامية – إجراء مراجعة شاملة ودقيقة لكافة التشريعات والنظم الداخلية، التي صدرت منذ مطلع التسعينيات، التي اتخذت منحىً تحررياً، كتشريعات العمل والتشريعات المالية وغيرها، ليس الهدف أن تتحول إلى تشريعات مقيدة للحرية، وإنما إعادة صياغتها، بما يضمن الموازنة بين اعتبارات الحرية الاقتصادية واعتبارات العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. أما فيما يختص بالخصخصة، ينبغي التوقف كلية عن بيع شركات القطاع العام وإجراء تقييم موضوعي للتجربة بعد نحو عقدين من البيع المحموم، كما أن المصلحة – وكما شهدنا بعد وقوع الأزمة، تقتضي وجود ملكية عامة توازن بين اعتبارات السوق واعتبارات العدالة الاجتماعية، فالأولى معالجة أوجه القصور في الشركات العامة بدلاً من اللجوء للخيار الحكومي السهل وهو البيع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي