"حماس" وُجدت لتبقى فاقبلوا بها
تتمتع الدولة الصهيونية هذه الأيام بأسعد أوقات وجودها منذ أن تكونت على أرض فلسطين المسلوبة قبل 60 عاما, لأن كل شيء في الوقت الحاضر يسير لصالحها. وفي المقابل يعيش الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره أسوأ أيام حياته بسبب التفرُّق والتناحر المزمن بين حركاته ومنظماته وفصائله التي لا تُعدُّ ولا تحصى. ومن غير المعقول أن نطلب من العالم العربي وبقية الدول الأخرى المحبة للسلام المساعدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من براثن الوحوش الصهيونية، بينما أصحاب الشأن مشغولون بأنفسهم عن قضيتهم، وجُلَّ إنجازاتهم التزحزح إلى الوراء بمطالبهم كلما تقدم العدو خطوة للاستيلاء على مزيد من الأرض. حتى تلك الضربة الغاشمة والموجعة التي أصابت أهل غزة, وهم في الوقت نفسه محاصرون, لم توقظ لهم ضميراً يجعلهم يصحون من سباتهم وينسون أحقادهم الشخصية من أجل القضية، بل ظلُّوا على مواقفهم يفاوضون ويحاورون, وكل يحاول الحفاظ على حركته أو فصيله, وغزة الجريحة تنتظر الفرج. وبصرف النظر عن وجود الخلافات الفلسطينية مع بعضها، إلا أن ذلك لا يُعفي دول العالم وشعوبها من مسؤولية إدانة الحكم الفاشي في إسرائيل ضد أصحاب الأرض الأصليين. ويكفي أن تشاهد هيئة زعماء الشعب الإسرائيلي وهم مُنتَفِخو الأوداج يتحدثون من رؤوس أنوفهم من الكِبروالغطرسة المتناهية، متناسين أن أكثريتهم إلى عهد قريب كانوا من أحقر خلق الله على وجه الأرض، وأن أحفادهم سيدفعون ثمناً غالياً عاجلاً أم آجلاً .
وفي واقع الأمر أن لا خير يُرجى من جميع التجمعات والفئات الموجودة اليوم على الساحة الفلسطينية، ما عدا ربما حركة المقاومة الإسلامية، "حماس". فقد جربت تلك الفئات حظها مع العدو الصهيوني خلال الـ 60 سنة الماضية، بالقوة وبالمهادنة أحياناً وبالمفاوضات، وبجميع أنواع وأشكال التنازلات ولم تُحقق شيئاً على الاطلاق. بل إن الإسرائيليين خلال أزمان التواصل مع ممثلي الشعب الفلسطيني كانوا يتمادون في نهب مزيد من الأرض وبناء المستوطنات وتشديد الحصار على الفلسطينيين العُزَّل حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت، إلى جانب الهجمات الهمجية الليلية المستمرة على البيوت الآمنة وانتزاع الرجال والشبان من بين أهليهم وزجهم في سجون الاحتلال دون رحمة ودون أي ذنب اقترفوه، وإنما لمجرد الإهانة والإذلال. ومع ذلك، فالإخوان الذين ذكرناهم، قديمهم وحديثهم، لا يزالون يواصلون الاتصال والتواصل مع هذا العدو الذي يتغير وجهه بعد كل فترة من قبيح إلى أقبح، فينكر الأقبح ما وعد به القبيح، وفي النهاية تضيع الآمال ويبدأون المفاوضات من جديد وبطموحات أدنى من سابقها، وهكذا دواليك، حتى لم يبق على أرض الواقع ما يتفاوضون عليه. كم من الجلسات التفاوضية عُقدت مع ممثلي العدو الصهيوني وكم من المعاهدات التي أبرمت، سواء منها المباشر أو الذي تم بوساطة دولية ولم يُنفَّذ منها حرف واحد، وهو ما أوجد إحباطاً ثقيلاً لدى الشعب الفلسطيني قرر على أثره تغيير ولائه ونقله من القيادات التقليدية القديمة إلى حركة "حماس" الأكثر إخلاصاً وجدية.
ونحن نقول أعطوا هذه المرة "حماس" فرصة لقيادة الشعب الفلسطيني الذي انتخبها بالأكثرية, فهي الأفضل على الساحة اليوم، ورجالها أكثر ثباتاً وأقوى عزيمة وأخلص عملاً وأجدر بتحمل المسؤولية، ونحسبهم ـ والله أعلم ـ أصفى نية وأكثر عِفَّة. والكلُّ يعلم أن بعض الدول العربية تشارك العدو الصهيوني كرهه وعدم قبوله حركة حماس كشريك مع السلطة الفلسطينية التي أصابها الهرم، فما بالك بقبولها كممثل للشعب الفلسطيني! بل إن معظم دول العالم انخدعت بالدعاية الصهيونية وصنفت حركة "حماس" "ظلماً" على أنها مؤسسة إرهابية، مع أنها لم تمارس أعمالاً إرهابية خارجة عن مفهوم مقاومة الاحتلال، على الرغم من أن الإرهاب الصهيوني متواصل ضدها بقصد جرها إلى مواجهة مفتوحة مع العدو. وربما أن ذنبها الوحيد الذي تبنته الدعاية الإسرائيلية هو رفض "حماس" الاعتراف بالدولة المحتلة حتى تتيقَّن من أنها بالمقابل ستعترف بها كطرف يمثل الإرادة الفلسطينية، ومن حقها أن تفعل ذلك. وسواء اعترفت "حماس" بوجود الدولة اليهودية على أرض فلسطين أم لم تعترف، فلن يُغيِّر ذلك من سياسة الرفض الإسرائيلية لقبول "حماس" كشريك في أي مفاوضات مستقبلية، إلا في حالة فرض حركة "حماس" نفسها الأمر الواقع على إسرائيل وعلى المجتمع الدولي، بدءا بالدول العربية التي تنظر إلى "حماس" "برؤية إسرائيلية " على أنها خطر وهميٌّ يهدد نظمها. وقبول الدول العربية وبقية دول العالم بحركة "حماس" احترام لإرادة أكثرية الشعب الفلسطيني صاحب القضية. ولو طُرح اليوم استفتاء جديد في جميع نواحي فلسطين، فمن المؤكد أن حركة "حماس" ستفوز بالأغلبية دون غيرها كممثل للشعب الفلسطيني، والعدو الصهيوني دون شك يعرف ذلك.
ولعل الكل يذكر مواقف بعض الدول العربية من حزب الله اللبناني عند ما تأسس كحزب مستقل، فكانت وسائل إعلام تلك الدول تسبق كلمتي "حزب الله " بكلمة ما يسمى، فتقول: ما يسمى حزب الله، وهو تعبير عن عدم الاعتراف بالحزب. وظلت تلك الممارسة فترة طويلة، وفي النهاية تم قبول حزب الله من الجميع وحُذفت كلمة ما يسمى التي كانت تسبقها في وسائل الاعلام. ولو عاد المجتمع العربي الذي لا يزال يُناوئ حركة "حماس" ويعتبرها منظمة إرهابية أو حتى مُتشددة يصعب على الإسرائيليين التعامل معها وأرجع صلابة موقفها إلى التعنت الصهيوني الذي لا يريد حلا للقضية الفلسطينية, لوجدوا أن معها حق، وأن الأولى هو تأييدها بدلا من معاداتها وإعطاء العدو ذريعة للتنكيل بالشعب الفلسطيني كما حصل في غزة أمام أعين العالم وبصره.
ونحن نأمل كذلك أن يكون رجال حركة حماس أكثر مرونة في التعامل مع الآخرين، وهم أهل لذلك، حتى ولو كان الأمر يتعلق بالمبادئ الأساسية التي يؤمنون بها. وليس ذلك من باب تبسيط الأمور، فأمامهم عدو شرس وغاشم ولديه أحلام في التوسع لا نهاية لها، وُمؤيَّد بقوة من قبل دول عظمى أعمى الله بصيرتها فصاروا يرون الحق باطلا والباطل حقا. و كلمة حق نقولها بحق حركة حماس، وهي أنه على الرغم من كل النكبات التي تعرضت لها الحركة على يد قوات الاحتلال والانتقادات المختلفة التي ابتُليت بها من المحبين وغير المحبين, فإنها ظلت صامدة وصابرة ولم يفقد أي من أفرادها أعصابه أو يرتكب حماقة قد تضر بسمعته وتفقده احترام الآخرين، وهو ما يُحسَب لها.