لفهم التاريخ
حين أراد المؤرخ البريطاني فهم تاريخ بريطانيا، لم يجد سبيلا إلا في الرجوع القهقرى، ليعبر قنطرة الإصلاح الديني، قبل دخول بوابة عصور التنوير.
ويروي توينبي عن أمه، أنها كانت تقرأ عليه كل ليلة حزبا من آيات التاريخ البريطاني المجيد، فولد مشبعا بالحماس بتاريخ ثبت أنه قاصر عاجز عن استيعاب تحولات العصر.
ويقول إنه من أجل فهم ما حدث في بريطانيا، كان عليه في كل حلقة أن يوسع مدى البحث، دوما إلى الأوسع، فلا يمكن فهم قيام نظام الاقتصاد الصناعي عام 1775م، قبل فهم قيام الحكومة البرلمانية المسؤولة قبله عام 1675م، والثاني بدوره مرتبط بعصر التوسع عبر البحار عام 1575م، دوما بفارق 100 عام، وذاك بدوره يعود إلى عصر الإصلاح الديني عام 1550م.
والإصلاح الديني يدين بدوره لفكر النهضة الذي بدأ "نسمة حياة من شمال إيطاليا؛ فلو لم تبذر بذور المذهب الإنساني وإقامة العلاقات الدولية على توازن القوى، على صورة مصغرة في شمال إيطاليا، مثلما تزرع الفسائل في مشتل محمي من تقلبات الجو، طوال قرنين يقعان تقريبا بين عامي 1275 و1475م، لما قدر لهذه المذاهب بحال أن تغرس شمال جبال الألب ابتداء من عام 1475م"، لكن الشيء الأكيد حسب توينبي أن الإصلاح الديني كان" حقيقة مبدأ كل شيء في التاريخ الإنجليزي" في الوقت الذي يعترف بأن التاريخ الإنجليزي وحده يصعب فهمه مستقلا عن أحداث القارة.
ويتكلم الرجل بسخرية عن عمل المؤرخين أنهم أميل إلى " توضيح آراء الجماعات التي يعيشون ويكدحون في محيطها منهم إلى تصحيح تلك الآراء".
وبالنسبة لنا في العالم العربي يبدو أننا نعيش زمانا قبل الفترة التي تحدث عنها توينبي أي عام 1550 م ، فنحن حاليا عام 1430 م فعلا واسما 1430 هجري، يكفي تغيير حرف بحرف، الهاء بالميم.
وعمل جريء واع من هذا النوع يحافظ فيه على الأمة، ويدفع بها للأمام من حالة الشلل العقلي، وخانات التاريخ المغلقة، إلى الحركة والإصلاح ودخول العصر أمر يبقى مرهونا بعالم الغيب، ولكن الأيام حبالى وما تدري ماذا تكسب غدا ..
إن أوروبا قاومت جدا الإصلاح حتى استسلمت أخيرا مرغمة مع الثورة الفرنسية، والتحول البرلماني في بريطانيا والدوما في روسيا. والماجنا كارتا.
ومشكلة الكنيسة والكهان تطرق لها القرآن الذين بدلوا وحرفوا وافتروا على الله الكذب.
وكان مصدر قوتهم إدعاؤهم امتلاك قوة خارقة استثنائية، والتوحيد جاء من أجل نزع كل صفة خارقة عن البشر، بمن فيهم الأنبياء، وإعادتهم إلى الخانة الإنسانية؛ إنما أنا بشر مثلكم.
مع هذا فلم يكن كل من مارتن لوثر وكالفن من أشد المتدينين المعتدلين، فأما كالفن فأحرق بالنار الطبيب سرفيتيوس مكتشف الدورة الدموية، لأنه رفض تعميد صبيان لا يفقهون، بالماء والزيت ليصبحوا مؤمنين، والإيمان قناعة، والقناعة عقل ونضج، ورفع القلم عن الصبي حتى يحلم، ولكن فكرة جنونية من هذا النوع كلفته النار ذات الوقود. أما لوثر فقد أنكر كلية أفكار غاليلو الكونية، وبالطبع هرطقات برونو، الذي أحرق أيضا مع مطلع القرن السابع عشر للميلاد.
إن قراءة التاريخ مفيدة لفهم التحولات الكبرى، وحاليا فإن كثيرا من النزاع الذي يحصل يتم بتجنيد المقدس في جانبه. فإذا هم فيه فريقان يختصمون.وفي قناعتي أنه إذا لم يتم العبور فوق قنطرة الإصلاح فلن نصل إلى شاطئ المعاصرة. ومن يمسك مفاصل العقل الإسلامي في معظمه حاليا هم مزيج من ثلاث فرق؛ فإما من المتشددين الذين يدعون بالهلاك والثبور وعظائم الأمور على تسعة أعشار الجنس البشري، وإما وعاظ السلاطين، أو المستريحين في مضافة سعيد جقمق أيام المماليك الشراكسة قبل سبعة قرون. وإلى حين استيقاظ العقل المخدر في إجازة مفتوحة علينا أن نقول كلاما لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا.