الخلاء ... والمكان!

انتهينا في المقال السابق إلى أن المتكلمين يرفضون أن تكون الجواهر الفردة تقيم في "مكان"، لأن المكان عندهم والمُتَمكِّن فيه شيء واحد. فتساءلنا فأين تقيم إذن؟
يجيب المتكلمون بأنها في "الخلاء". والخلاء عندهم هو "الفضاء الذي يثبته الوهم ويدركه من الجسم المحيط بجسم آخر، كالفضاء المشغول بالماء أو الهواء في داخل الكوز. فهذا الفراغ الموهوم (المتصور) هو الذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم وأن يكون ظرفا له عندهم. فبهذا الاعتبار يجعلونه حيزا للجسم، وباعتبار فراغه عن شغل الجسم إياه يجعلونه خلاء. فالخلاء عندهم هو هذا الفراغ مع قيد أن لا يشغله شاغل من الأجسام، فيكون لا شيء محضا، لأن الفراغ الموهوم (المتصور) ليس موجودا في الخارج بل هو أمر موهوم، إذ لو وجد لكان بُعدا منظورا، وهم لا يقولون به".
الجواهر الفردة، مثل الأجسام، توجد في خلاء، وكل منها يتخصص بحيزه فيه، ولها في ذلك أربع حالات لا غير: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون، ويسمون هذه الحالات بـ "الأكوان" : فباجتماع الجواهر تتكون الأجسام، وبافتراقها تنعدم. واجتماع الجواهر في جسم لا يكون بتداخل بعضها في بعض، فالجواهر لا تتداخل وإنما تتجاور فقط. وإذا قيل، على سبيل التجاوز، "تداخل الجواهر واختلاطها فالمعنى تجاورها" (يُستثنَى من هذا "نظرية الكُمون" عند إبراهيم النظام تلميذ أبي الهذيل العلاف). وإذن فالأجسام هي عبارة عن مركبات من أجزاء صغيرة متشابهة متماثلة لا اختلاف فيها بوجه، وهي منفصلة عن بعضها ومستقلة، ولكن متجاورة، وتجاورها هو ما يجعل منها جسما. وإنما تختلف الأجسام من حيث الثقل والكبر والصلابة باختلاف عدد الجواهر الداخلة في تركيبها ومدى الفراغ القائم بين كل جوهر وآخر. فما كان عدد جواهره أكثر كان أكبر، وما كان الفراغ الذي يفصل بين جواهره أقل وأصغر كان أصلب وأثقل. وهكذا "فإذا كانت الزبرة من الحديد أثقل مما في مثل حجمها من الخشب فإنما ذلك لكثرة أجزاء الحديد وانضمامها وتراصها وقلة انفراجها". هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لما كانت الأجسام تتألف - كما قلنا - من أجزاء لا تتجزأ، متجاورة غير ملتحمة ولا متصلة فيلزم عن ذلك أنه ليست ثمة مقدار (المقدار: كما نقول هذا ثوب مقداره متر أو مترين.. إلخ) وبالفعل، أنكر أصحاب نظرية الجوهر الفرد وجود المقدار، لأن المقدار يعني وجود الاتصال. والجوهر هو "فرد" منفصل. وواضح أن إبطال الاتصال يلزم عنه إبطال الهندسة كلها وهي قائمة على الاتصال (الخط في التصور الهندسي نقط متصلة وليست منفصلة). ولعل هذا من جملة الأسباب التي جعلت البيانيين، فقهاء ومتكلمين، يعادون الهندسة ويحاربونها، بينما قبلوا الحساب والجبر واشتغلوا بهما، لأنهما قائمين على الانفصال (أعداد مستقلة: 1، 2، 3...).
هذا عن اجتماع الجواهر وافتراقها، أما عن حركتها وسكونها فيجب التنبيه بادئ ذي بدء إلى أن الحركة عند المتكلمين ليست، كما نفهمها نحن اليوم، عبارة عن انتقال الجسم من مكان إلى مكان، كلا. فلقد رأيناهم يقولون ليس ثمة مكان، وإنما جواهر وخلاء. وإذن فالحركة هي انتقال الجوهر الفرد في الخلاء من مجاورة جوهر فرد إلى مجاورة جوهر فرد آخر. وبما أن الجواهر الفردة متماثلة من جميع الوجوه، كما قلنا، وبما أنها غير ذات كم ولا شكل، وبما أنها تتحرك في خلاء، أي في مجال متساو لا فرق فيه بين جوهر وآخر، فيلزم من ذلك أن تكون متماثلة في حركتها، وبالتالي فليس ثمة حركة أسرع من حركة، وإنما هي سرعة واحدة تتحرك بها جميع المتحركات. أما ما نراه من أن متحركا معينا يقطع مسافة أطول من المسافة التي يقطعها متحرك آخر في نفس المقدار من الزمن فليس راجعا إلى أن حركة الأول أسرع من حركة الثاني، بل كل ما هناك، في نظر القائلين بالجوهر الفرد، أن حركته يتخللها عدد من السكونات أقل من عدد السكونات التي تخللت حركة زميله. ومعنى هذا أن الحركة لا تتم باتصال بل بانفصال. وبعبارة أخرى إن الحركة تتألف هي الأخرى، مثلها مثل الجواهر الفردة المكونة للأجسام، من أجزاء لا تتجزأ يفصل بينها "السكون" الذي هو أيضا عبارة عن أجزاء لا تتجزأ، أي عن سكونات. وإذن، فما نراه من اختلاف سرعة الأجسام المتحركة لا يرجع إلى تفاوت في سرعتها، بل إلى قلة أو كثرة السكونات التي تتخلل حركتها: فما تخللت حركته سكونات أقل كان أسرع، وما تخللت حركته سكونات أكثر كان أبطأ.
ولقد كان من الطبيعي أن تثير هذه الآراء اعتراضات عديدة : لقد اعترض عليهم مثلا بما نراه من اتصال حركة السهم المنطلق من القوس، فكان جوابهم أن الاتصال الذي نراه في حركة السهم إنما هو راجع إلى ضعف حواسنا، أما في الحقيقة (=أي حسب ما يقتضيه العقل الذي يفكر داخل نظرية الجوهر الفرد ويلتزم بمقدماتها) فإن حركة السهم هي عبارة عن أجزاء متساوية تفصل بينها سكونات، مثلها في ذلك مثل حركة اليد. فأنت إذا حركت يدك فليس معنى ذلك عندهم أن الحركة صدرت من "جملة اليد" بل صدرت من كل جزء من أجزائها... ومن الاعتراضات الطريفة التي وجهت لهم اعتراض يتعلق بحركة الرَّحى: قيل لهم إن الرحى، حينما تدور دورة كاملة، تكون قد قطعت في محيطها دائرةَ مسافتُها أكبر من مسافة الدائرة التي تقطعها في مركزها أو قريبا منه. وبما أن ذلك يتم في مقدار واحد من الزمن فيلزم القول إن حركة الرحى على دائرتها المحيطية أسرع من حركتها على دائرتها المركزية، ولا يمكن أن يكون ذلك راجعا إلى أن حركتها في مركزها تتخللها سكونات أكثر عددا من التي تتخلل حركتها في محيطها لأن الأمر يتعلق بجسم واحد هو جسم الرحى! أجاب المتكلمون: بلى، إن جسم الرحى تتفكك أجزاؤه عند الدوران وتكون السكونات التي تتخلل الأجزاء التي تدور قريبا من مركزها أكثر عددا من السكونات التي تتخلل الأجزاء التي تتحرك بعيدا عنه. ثم يضيفون: ونحن لا ندرك تفكك أجزاء الرحى حين دورانها لأنها أجزاء دقيقة، أي جواهر فردة لا طول لها ولا عرض ولا عمق، وبالتالي فهي لا تدرك بالحواس. فالخطأ إذن ليس خطأ النظرية بل خطأ الحواس وقصورها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي