البطالة وعسر التوظيف وشؤون أخرى
من حين إلى آخر تظهر مصلحة الإحصاءات العامة بيانات إحصائية معبرة عن أداء الاقتصاد الوطني, ومن هذه البيانات التي باتت المصلحة تصدرها بصورة منتظمة هي معدل البطالة في سوق العمل السعودي. ومنذ بدأت المصلحة في إظهار تلك البيانات اجتذبت تلك البيانات اهتمام العديد من الجهات الرسمية والشعبية, وقوبلت لدى كثير من القطاعات المهتمة بالتشكيك في مصداقيتها، نظراً لضخامة الأرقام، حيث الانطباع السائد أن الاقتصاد السعودي يولد أعمالا جديدة كل يوم. إلا أن آخرين اعتمدوا عليها ودافعوا عنها مطالبين بوضع إجراءات تحد من حرية توظيف العمال الأجانب والتحكم والحد من استقدامهم، وما زال هذا النزال بين المشككين والمؤيدين يحتدم في كل مرة تظهر مؤشرات البطالة أو يقر إجراء يؤثر فيها.
إن هيكلية سوق العمل السعودي وما يؤثر فيه من عوامل اقتصادية واجتماعية تجعل من عملية إحصاء العاطلين عن العمل بصفة عامة أمرا دقيقا، ينطوي على إدراك تلك العوامل ووزن لمؤثراتها ثم الخروج بتعريف مقبول يصف الشخص العاطل عن العمل، وهناك تعريف معياري تبنته منظمة العمل الدولية يصف العاطل عن العمل نصه "أن العاطلين عن العمل هم الذين لا يعملون حالياً ولديهم الرغبة والقدرة على العمل المأجور, وجاهزون للعمل ويبحثون عنه بجد" وهذا النص المعياري اعتمد على عدد من العناصر الأساسية تمثلت في التالي:
حصر مجمل القوى العاملة بالبلاد بالرغبة والقدرة، فلا يدخل في نسبية البطالة إلا الراغبون وجدانياً والقادرون بدنياً, ويحدد كل ذلك كل مجتمع حسب المؤثرات البيئية التي تشمل الهيكل الأسري وضوابط العمل العمرية وقوانين حماية الأقليات ونظم الإجراء التأكيدي للتوظيف.
الجاهزية للعمل وهي الفترة الزمنية الفاصلة بين إيجاد العمل والبدء فيه وهي تختلف لدى عديد من المجتمعات نتيجة لعوامل تتعلق بمكان العمل والمتطلبات النظامية.
الفترة الزمنية الضابطة لعملية البحث عن العمل, وتختلف من مجتمع إلى آخر تبعاً لتوافر قنوات التوظيف الرسمية والأهلية وفعاليتها.
الجدية في البحث والتي يعبر عنها بمواصلة البحث عن العمل خلال الفترة الزمنية الضابطة لعملية البحث.
بناء على ذلك التعريف المعياري تبنى الاتحاد الأوروبي التعريف التالي للعاطلين عن العمل "هم الأشخاص الذين تراوح أعمارهم بين 15 و74 سنة ولا يعملون حالياً وبحثوا عن العمل في الأسابيع الأربعة السابقة, ولديهم الجاهزية للالتحاق بالعمل خلال أسبوعين "أما التعريف الأمريكي الذي تعتمده مصلحة إحصاءات العمل الأمريكية للشخص العاطل عن العمل فهو "أن الشخص العاطل عن العمل هو الذي يبحث عن أي عمل بصورة متواصلة لمدة ثلاثة أسابيع ولا يجد عملاً " لذا ربما كان على مصلحة الإحصاءات العامة قبل إعلان أي بيانات إحصائية لسوق العمل السعودي وضع التعريفات التي تتفق وحال السوق حتى تكتسب بياناتها المصداقية والقدرة على الصمود في وجه الانتقادات. ثم إن هناك حاجة ملحة إلى وجود كيان مستقل يعنى بإحصائيات العمل والتي تتعدى مجرد إظهار مؤشرات البطالة، وهو ما هو مطلوب من وزارة العمل الجد في إيجاده ودعمه بالقدرات المناسبة, فالعملية الإنتاجية للمجتمعات المتقدمة والتي نسعى لنكون منها تحتاج إلى إحصائيات دقيقة ومتعددة ومعيارية مع الاقتصادات الأخرى.
إن المراقب لسوق العمل السعودي يدرك أن هناك خللا في بنائية السوق، فالسوق يتمثل في سوقين متداخلين من حيث اشتراكهما في استهداف مصادر التوظيف في حين وجود اختلاف جوهري في مكوناتهما, فالأول يتمثل في سوق عمل المواطنين السعوديين والآخر في سوق عمل الأجانب, والخلافات أساسية في طبيعة عقد العمل ومدى الإذعان في العقد، وحرية الاختيار والانتقال بين الوظائف، وأسس تحديد الأجور، وحقوق التطوير والتدريب، والضغوط الاجتماعية وإلحاح الحاجة للعمل. كما أن السوقين يتأثران بالعلاقة فيما بينهما من حيث التنافسية في الحصول على الجدارة بالعمل والعلاقة الإشراف خلال منظومة العمل. هذا الخلل يلقي بتحديات أمام المؤسسات الفاعلة في سوق العمل السعودي سواء كانت قطاعات حكومية على رأسها وزارة العمل أو قطاعات خاصة توفر العمل إلى السوق. فكل من أولئك له همومه وأهدافه التي كثيراً ما تتصادم نتيجة لقصور في تفهم موقف كل منهم. ولا سبيل لحل تلك الإشكالات إلا بالعمل على توحيد بنائية السوق، حيث تصبح العوامل المؤثرة بمكوناته البشرية بغض النظر كانت سعودية أو غير سعودية متماثلة بقدر مقبول، عندها سيكون لخطط تغليب المكون البشري السعودي لسوق العمل من حيث العدد والنوعية على حساب المكون الأجنبي حظ من النجاح، أما والحال على ما هي عليه فكل ما يبذل من جهود هو في مذرى الرياح.
لا غرو أن يشعر كثير من المواطنين الباحثين عن العمل وخصوصاً المستجدين منهم بالإحباط وتحطم الآمال عند مغيب كل يوم ينهكون به قواهم بحثاً عن عمل مناسب، ويستشعرون مرارة تنخر همهم للبحث في اليوم التالي, وما ذلك إلا لضعف قنوات التوظيف، وتتمثل قنوات التوظيف في مكاتب التوظيف لدى مكاتب العمل المنتشرة في عموم المملكة ومكاتب التوظيف الأهلية والتي تقدم خدماتها بمقابل ومكاتب التوظيف الخاصة في كبريات الشركات ومواقع التوظيف على الشبكة والتي تحتفظ بقواعد معلومات المتقدمين وتمنحها مقابل الولوج المدفوع. ولكل من تلك القنوات سمة ضعف أو أكثر تجعلها غير قادرة على الاضطلاع بالدور المراد لها، فمكاتب التوظيف الحكومية تعتمد على منهجية غير فاعلة، حيث لا يزال دورها محدود في تقبل طلبات التوظيف وإصدار خطابات التوجيه دون أن يكون لها دور إيجابي في عملية تهيئة المتقدمين للتوظيف أو حتى اكتساب ثقة أصحاب الأعمال في الاعتماد عليها في البحث عن الموظفين، أما مكاتب التوظيف الأهلية, فالشكوى منها تتمثل في جشعها في تحصيل رسوم باهظة دون أن يكون مقابل ذلك جهد في البحث والاستقصاء والانتقاء, في حين هي تشتكي من استغلال أصحاب العمال مواردها دون التزام بدفع مقابل ومكاتب التوظيف الخاصة في المؤسسات الكبيرة ونتيجة لكثرة الإقبال عليها من المتقدمين تضع معايير انتقائية وإجراءات اختيار طويلة تبعث الملل في المتقدمين, وفي كثير من الأحيان تكون تلك المكاتب نقطة مرور، حيث لا تملك قرار التوظيف حين يكون القرار لدى الإدارات التنفيذية التي تضع معايير اختيار متفاوتة محصلتها تفضيلات مزاجية وانطباعية. أما مواقع التوظيف على الشبكة, وعلى الرغم من كثرتها إلا أنها لا يمكن الاعتداد بها كقنوات توظيف لكونها مفتوحة التغذية ولا تتحمل مسؤولية صدق بياناتها وتفتقر للتفاعلية, ثم أن ميكانيكية البحث فيها قد تخفق في إظهار الشخص المناسب. هذا الخلل في قنوات التوظيف هو ما يمثل عنق زجاجة لعملية توظيف المواطنين على وجه الخصوص ويخلق ما يعرف بعسر التوظيف, في حين يكون في المقابل سهولة في استقطاب الموظفين الأجانب في بلدانهم التي تتميز فيها مكاتب التوظيف بفاعلية أكبر، وهذا الخلل منوط بوزارة العمل، فعليها مسؤولية إيجاد سبل عملية لتمكين قنوات التوظيف من تفعيل دورها. كيف يكون ذلك؟ هذا ما يجب أن يصب مسؤولو وزارة العمل جهودهم وفكرهم فيه، فلا تنقصهم الحيلة والإبداع في ذلك.