أكل التراب مع الجماعة !
هناك مثل شعبي قديم ومعروف يقول ( الموت مع الجماعة رحمة) و هو مثل ينطوي على فلسفة لاتخفى على أحد تصور الكوارث الجماعية على أنها أفضل من الكارثة الشخصية وهذه الفلسفة نفسها هي التي ينطلق منها مثل معروف آخر هو (حشرٍ مع الناس عيد).
ولأن هذه الفلسفة ضاربة بجذورها في الثقافة الاجتماعية المحلية فقد حاولت تفكيكها للوصول إلى نتيجة تصور الأسباب التي تنطلق على أساسها ولم أخرج إلا بنتيجة واحدة تتمثل في اعتقاد غالب الناس دون شعور أن الاشتراك في الألم أمر من الممكن أن يخفف هذا الألم . ولعل ذلك ما يتضح بشكل كبير في المشاركة المعنوية بين الناس في أوقات الأزمات وترديد المواطنين العرب دون غيرهم في وجوه بعضهم البعض عبارة (شد حيلك) وعبارة (قلبي معك) وغيرها من العبارات التي تحمل نفس المعنى والتي تشبه إلى حد كبير ثقافة الإسعافات الأولية !
قبل أيام هجمت جبال من الغبار المسعور على كثير من مناطق المملكة بما فيها الرياض.. هجمت هكذا فجأة دون أن يصل لأي مواطن صالح في هذا البلد تحذير من عملية أكل التراب بشكل جماعي, ثم ألقت كل جهة بالمسؤولية على الأخرى في قصة طويلة لن تجدي روايتها هنا شيئاً.
المهم في الموضوع أنه ثبت بشكل قاطع بعد تلك التجربة وبمساعدة من أقسام الطوارئ في غالب المستشفيات أن أكل التراب مع الجماعة ليس (رحمة) وليس (عيداً) أيضاً كما يشير المثلان اللذان ذكرتهما في بداية هذا المقال.. ذلك لأن أكل التراب الجماعي تسبب في ازدحام المستشفيات بالمرضى بشكل لم يسعفها لاستقبال جميع الحالات والعناية بها فقد امتلأت أقسام الطوارئ بأضعاف أضعاف الطاقة الاستيعابية لها, وكم من مواطن فضل أكل التراب والعودة إلى البيت دون أوكسجين على أن يستمر في أكل التراب عند أبواب أقسام الطوارئ حتى صباح اليوم التالي دون جدوى!
والتراب ياسادة ياكرام يحتوي على كثير من العناصر الأساسية لجسم الإنسان كالحديد والبوتاسيم وغيرها, لكن المشكلة أن جبال التراب التي مازالت تهاجمنا بين يوم وآخر تستهدف الرئتين والعينين ولا تفضل المبيت في المعدة مما يجعل هذه النوعية من التراب تتصف بعدوانية كبيرة ورغبة شديدة في الإيذاء وهذا النوع من السلوك يفسر في علم النفس بــ"السيكوباتية" أعاذني الله وإياكم منها!
ولأن هذه هي النتائج التي حصلنا عليها بعد يوم "الدفنة" لا أعاده الله والذي تم تسجيله ضد مجهول دون أي محاكمة بعد تنصل كل الجهات من مسؤوليتها, فعلى كل من أكل تراباً أن يحمد الله على العافية ويعود نفسه على التمتع بمذاقه.. أما إن كان طعم التراب ثقيلاً عليه ومازال يعبث بحلقه ورئتيه وليس باستطاعته التعايش مع هكذا حالة فعليه أن يجمع أكبر عدد من توكيلات آكلي التراب الآخرين مصطحباً تقاريره الطبية وأكياس الأدوية وفواتيرها وأن يتوجه ببضاعته إلى مكتب محاماة لتوكيله بمقاضاة الجهات المتنصلة من مسؤوليتها والمطالبة بتعويض المتضررين .. وعليه أن يتأكد بشكل قاطع أن هناك جهة ما ستتحمل في نهاية المطاف المسؤولية عن معاناته مع أكل التراب و تنقله بصحبة أطفاله بين المستشفيات , وبالطبع لن تكون هذه الجهة (الطبيعة) أو (الأقدار)!