هذه هي الجذور الحقيقية للأزمة العالمية!
إن أول مقال لي تفضلت هذه الجريدة المرموقة بنشره أتى تحت عنوان "وقعت الواقعة.. انهيار العولمة الرأسمالية"، وكان ذلك فور وقوع الأزمة مباشرة. قوبل مقالي هذا بسيل من النقد من قِبل بعض الزملاء، الذين رأوا، بل أصروا على أن الأزمة الراهنة ما هي إلا زوبعة في فنجان، ولا تعدو أن تكون أزمة ائتمان سطحية، وسرعان ما سيتعافي النظام منها بإصلاحات مالية عاجلة. ذكرت آنذاك أنها الأزمة التي سيتوقف على أثرها قطار العولمة الجامح، الذي دمر الكثير في طريقه طوال العقدين الماضيين.
ففي خلال العقدين الماضيين، وهما عمر مشروع العولمة الحالي، لم تنعم البشرية بالرفاهية والنعيم كما روج سدنة هذا المشروع "من أمثال ميلتون فريدمان وفرانسيس فوكوياما"، بل على النقيض من ذلك، لم تنج منطقة في العالم من السقوط في براثن أزمة، بطعم وشكل ونكهة مختلفة، فمن شرق الكوكب إلى غربه وشماله وجنوبه، ضربت الأزمات المالية (دول شرق آسيا، روسيا، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، دول أمريكا اللاتينية خاصة المكسيك والبرازيل والأرجنتين)، إلى أن اختتمت الرحلة بأزمة أشد حدة وشمولاً، وهي أزمة الغذاء العالمي، إضافة إلى أزمات وقضايا وتحديات أخرى لا تقل خطورة؛ كقضايا الإرهاب والانحباس الحراري، والتفاوت الطبقي البغيض والفقر المدقع، وتَجَبر وتوحش الشركات دولية النشاط.
إن أي محلل اقتصادي متعمق، كان عليه أن يتوقع أن كارثة ما ستحل لتوقف هذه الدوامة من الطحن والتدمير. فها هي الأيام قد مرت وكشفت عن حقائق مذهلة، فالاقتصادات الغربية تترنح تحت وطأة الأزمة، وها هي شركاتها الكبرى تستجدي حزم الإنقاذ، وها هي الولايات المتحدة وحدها تفقد نحو 600 وظيفة في كانون الثاني (يناير) فقط، وها هي منظمة العمل الدولية تتوقع فقدان أكثر من 50 مليون وظيفة في 2009م فقط!! وها هو الناتج الصناعي في الدول المتقدمة يصل إلى أدنى مستوياته منذ أزمة ثلاثينيات القرن الـ 20.. إذا حاولنا حصر حجم الخسائر فلن نستطيع مهما أوتينا من قوة، لأن حجم الكارثة كبير.
يا أحبائي، نحنا لسنا متشائمين، ولا شامتين، ولكننا محللون نعمل عمل الطبيب، بتشخيص أصل المرض. فالفشل في وضع التوصيف المناسب، يمكن أن يقودنا إلى وصف علاج مميت يضر أكثر مما يفيد. ولهذا عندما نقول إن الأزمة العالمية الراهنة أكبر وأعمق من كونها مجرد أزمة ائتمان، فنحن بذلك نحاول التعرف على الأسباب الحقيقية للأزمة. فلو كانت مجرد أزمة مالية بحتة لنجحت جهود وحزم إنقاذ المصارف وغيرها من المؤسسات المالية! ولانتهى الأمر.. أليس كذلك؟
وفي حقيقة الأمر يمكننا القول "بجملة قاطعة" إن من طبيعة النظام الرأسمالي الحر أنه "نظام أزمات ودورات". ففي خلال العقود الماضية تجمعت مجموعة من العوامل قادت إلى هذا الانهيار، وما كان الائتمان والتوسع فيه إلا نتيجة – وليس سببا – للنمط والفكر الرأسمالي الحر، الذي يدعو إلى الحرية شبه المطلقة، وغل يد الدولة، تحرير الأسواق الداخلية والخارجية، وذلك بافتراض المنافسة الكاملة والعادلة، وأن هذا السوق – الحر – حتى لو تعرض لأزمة، فهو قادر على تصحيح نفسه بنفسه، من خلال ما أطلقوا عليه "اليد الخفية" The Invisible Hand.
في ضوء المبادئ المشار إليها أعلاه، وفي خلال أكثر من عقدين، رضخت الأمم لأنصار وسدنة المشروع الليبرالي الجديد، وبعد أن نعتوا الفكر الكينزي – الذي يشكل سفينة الإنقاذ شبه الوحيدة الآن - بأقذع الألفاظ والتشبيهات، فسادت موجة من التحرر، غطت مختلف أرجاء المعمورة، خاصة بعد انهيار الأيديولوجية الاشتراكية، ونشأة منظمة التجارة العالمية في كانون الثاني (يناير) من عام 1995م.
وحتى تصلك الفكرة عزيزي القارئ، نستطيع أن نوجز الجذور الحقيقية للأزمة الراهنة فيما يلي:
أولاً: عدم التوازن في المبادلات الدولية: نعم عدم التوازن؛ فقد انقلب السحر على الساحر. سعى الغرب لاحتواء الصين في منظومة التجارة العالمية، أملاً في إخضاعها لأنظمة واتفاقات تجارية ومن ثم تقييدها، وبالفعل انضمت الصين للمنظمة عام 2001م، ولكن الذي حدث هو أن الصين وجدت ضالتها المنشودة في هذا الانضمام، فاستفادت كثيراً وبتضحيات قليلة، فلم يستطع الغرب تطويع الصين، في وقت غزت فيه المنتجات الصينية أسواق الدول الأعضاء في المنظمة. لقد تحكمت الصين في سعر صرف اليوان، ليبقى منخفضاً بما يضمن استمرار تنافسية الصادرات الصينية، والنتيجة هي تفاقم وتصاعد مذهل للعجز التجاري الأمريكي (والعالمي عامة) مع الصين، الذي مكن الصين من تحقيق فوائض ضخمة أعادت تدويرها للسوق الأمريكي. وتكفينا الإشارة إلى أنه بعد أن كان عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة مع الصين عام 1999م نحو 69 مليار دولار، تضاعف في نهاية عام 2007م إلى أكثر من 256 مليار دولار!
لقد أصبح المجتمع والمواطن الأمريكي يستهلك أكثر مما ينتج. فالمنافسة لم تكن منافسة حرة بشكل كامل – فالمنافسة الكاملة موجودة فقط في خيال الاقتصاديين أمثالنا – ولهذا اختل التوازن واستفادت قلة من الدول من هذا التحرر، وتضرر الباقون ومنها مصر وجميع الدول العربية غير النفطية وغيرها من الدول النامية على مستوى العالم. في ضوء حالة عدم التوازن تلك، وما أفضت إليه من أزمات، وُجِهت أصابع اللوم لمنظمة التجارة العالمية واتفاقاتها، وأصبح مستقبل منظمة التجارة تتهدده مخاطر جمة، خاصة في ظل تنامي التوجهات الحمائية.
ثانياً: مواصلة لمسيرة التحرر الاقتصادي "التحرير المالي" تطبيقاً للسياسات الليبرالية، اضطرت الولايات المتحدة إلى إلغاء التشريعات المقيدة للقطاع المصرفي في منح الائتمان خلال النصف الثاني من الثمانينيات (وهي فترة بزوغ مشروع العولمة)، ومن هنا بدأ القطاع المصرفي والمالي في تشكيل فقاعته، التي تشكلت وتضخمت على مدى عقدين، ثم ما لبثت أن انفجرت أخيرا. فلم يفوت القطاع المالي والمصرفي فرصة إلا واستفاد منها، بعد أن أصبح مطلق اليدين، فأصبح القطاع المالي يشكل أضعاف قطاع الإنتاج العيني أو الحقيقي، ولكن أنصار الحرية شبه المطلقة، لم يعيروا اهتماماً لهذا التفاوت الخطير، بحجة أن السوق سيوازن نفسه بنفسه، ولا داعي لأن تقحم الدولة أنفها غير المرغوب فيه!
ثالثاً: الإصرار على بقاء الدولار عملة احتياط دولية: نعم، هذا سبب ربما لا يدركه الكثيرون، ولكنه سبب بالغ الخطورة، وربما يفوق في أهميته الأسباب المشار إليها أعلاه. فقد خرجت الدول من الحرب العالمية الثانية، ومن أزمة كساد الثلاثينيات بنظام اقتصادي جديد، حلت فيه الولايات المتحدة والدولار محل المملكة المتحدة والاسترليني. فقد أصبح الدولار عملة التقييم الدولية، ومن ثم عملة الاحتياط خاصة بعد مواصلة ربط الدولار بالذهب (حتى 1971م). فالولايات المتحدة استفادت كثيراً من كون الدولار عملة العالم الأولى. فتلبية للطلب العالمي الكبير على الدولار، لم تتوان الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن إصدار الدولار دون ضوابط حقيقية، بحجة سد حاجة النظام الاقتصادي العالمي للدولار، وإلا سينهار النظام العالمي في حالة شح الدولار، كلام جميل!! إلا أنه بإصدار الولايات المتحدة مزيدا من الدولارات، فإنها تحصل في المقابل على سلع من العالم، أليس كذلك؟ ولهذا، كان من الطبيعي أن يبقى الميزان التجاري الأمريكي في حالة عجز شبه دائم..!
فالأمريكيون، وبحجة تلبية حاجة مختلف الحكومات للدولار، عاشوا لعقود يبيعون الوهم للآخرين، بحجة أنهم يخدمون العالم بتوفير الدولار، وكانوا على يقين أن الدولار لن تتراجع قيمته في الأسواق في ظل كونه عملة التقييم والاحتياط الدولية... إلخ. ولكن عندما استشعرت الولايات المتحدة أن مخزونها من الذهب سيتلاشى في حال تدافع حاملو الدولار لتحويله إلى ذهب، قامت وبقرار منفرد بفك ربط الدولار بالذهب عام 1971م، وأصبحت قوة الدولار نابعة من قوة الاقتصاد الأمريكي. إلا أن الولايات المتحدة لم تتوقف عن التوسع في إصدار الدولار، وظل الأمريكيون – في ضوء هذه الحجة الواهية – يستهلكون أكثر مما ينتجون.
إلا أنه كان لا بد أن يأتي اليوم الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تدفع فيه ثمن هذه السياسات الاحتيالية. فبمرور الوقت خُلقت حالة من عدم التوازن كما ذكرنا في أولاً، وفي ضوء إعمال قواعد الحرية، تحولت الولايات المتحدة إلى مدين صرف للعالم، وتفاقم العجز التجاري بشكل خطير، إلى أن تعدى التريليون دولار في 2008م، في وقت حقق الآخرون فيه فوائض خيالية، فقد تعدت فوائض الصين وحدها في نهاية 2007 مبلغ تريليوني دولار!! كما تعاظمت فوائض الدول النفطية، وكان لا بد لتلك الفوائض أن تبحث عن أبواب استثمار خارجية في ظل ضعف قدرة أسواقها المحلية على استيعاب كل تلك الأموال، وكان السوق الأمريكي (سواء في شكل استثمارات في أذون الخزانة أو استثمارات خاصة) هو القناة المثلي بعد تحريره.
ساعد على هذا التوجه، انهيار السوق المالية الأمريكية مطلع الألفية، بعد انهيار أسهم شركات الاتصالات والإلكترونيات، فتوجه الجميع نحو الاستثمار في قطاعات أقل مخاطرة، ووجدوا ضالتهم في القطاع العقاري. هنا لم تفوت البنوك الفرصة، فأخذت زمام المبادرة، بتقديم الائتمان دون مراعاة أدنى معايير الائتمان في ظل الجشع وتعظيم الأرباح، وبعد أن غابت الضوابط بدعوى الحرية!
وهكذا.. كان لا بد لهذه الفقاعة أن تنفجر، خاصة في وجه من صنعها، كان لابد للولايات المتحدة أن تدفع ثمن الإفراط في ابتزاز العالم بعملتها غير المغطاة، كان على الأمريكيين أن يدفعوا ثمن العيش على أكتاف الآخرين، ولكن للأسف، لم تصب هذه الأزمة فقط صانعيها، ولكنها أصابت - بشكل أكبر الضعفاء - الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه العملية برمتها. في ضوء تأصيلنا أعلاه، نحاول ـ إن شاء الله ـ في مقالنا التالي عرض العلاج وسبل الخروج، طالما وضعنا أيدينا بوضوح على أسباب المرض.