أوروبا والعالم العربي .. التخلص من أحمال التاريخ

مع انتشار الإسلام بدأت الدولة الإسلامية في التوسع، مما أتاح للعرب فرصة التواجد خارج شبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي، موسعين حدود الدولة الإسلامية. وفي أقل من قرن بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وصلت حدود الدولة إلى تخوم الصين شرقاً وشاطئ الأطلسي غرباً.
كانت معركة نهر اليرموك 636 – 637م أول معركة كبيرة بين المسلمين العرب والإمبراطورية البيزنطية المسيحية (وقع قبلها معارك صغيرة مثل مؤتة (629م)، وغيرها من المناوشات الحدودية). وكان استيلاء العرب المسلمين على أراضٍ كانت تابعة لبيزنطة مثل سوريا وفلسطين أمراً أثار حفيظة نصارى أوروبا، خاصة إذا أخذنا في الحسبان مكانة فلسطين الدينية لديهم. وبالرغم من أن الخليفة هارون الرشيد (786 – 809م) تبادل الهدايا والسفراء مع شارلمان ملك فرنسا، إلا أن الجو العام بين أوروبا والعالم الإسلامي ظل لفترة طويلة يتسم بالعداء وانعدام الثقة. وزاد من ذلك فتح المسلمين إسبانيا عام 711م، معلنين وصول الإسلام إلى أوروبا نفسها، مما زاد من تخوف أوروبا من الإسلام والمسلمين. وأصبح ذلك جلياً في عام 1095 مع انطلاقة الحملة الصليبية الأولى. واستمرت الحملات الصليبية على مدى قرنين من الزمان، لتصيغ علاقة جديدة بين أوروبا والشرق الإسلامي / العربي تتسم ليس فقط بالعداء وإنما بالمواجهة والدموية.
مع أن الحملات الصليبية انتهت عام 1291م، إلا أن المواجهة العسكرية بين العالمين استمرت ففي عام 1453م احتل العثمانيون أقدس مدينة في العالم المسيحي (القسطنطينية). وقاد البابا كاليستوس الثالث (1378-1458م) بنفسه حملة صليبية لاستعادة المدينة من أيدي العثمانيين ولكنه فشل في ذلك. وفي إسبانيا قام ملوك إسبانيا وأمراؤها بحملات مستمرة لتقليص مملكة المسلمين في شبه جزيرة الأندلس، مدعومين بجيوش قادمة من إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، وإنجلترا. وفي عام 1492م سقطت غرناطة، آخر مدينة إسلامية في إسبانيا، معلنة نهاية الوجود الإسلامي في إسبانيا.
استمر العثمانيون في حملاتهم العسكرية في شرق أوروبا، محتلين بلغراد في عام 1521م، ومحاصرين فينا عام 1529م. وفي عام 1571م احتل العثمانيون قبرص. وفي عام 1669م كانت أغلب أراضي كريت تحت حكم العثمانيين، وحاصروا فينا مرة أخرى عام 1683م. وبعد هذا التاريخ سقطت الخلافة العثمانية في خلافات داخلية وانقسامات، قابلتها زيادة في قوة الدول الأوروبية ونفوذها على مستوى العالم، لتصعد إمبراطوريات استعمارية أوروبية مثل هولندا، وإسبانيا، والبرتغال، وبلجيكا، ولاحقاً فرنسا وبريطانيا.
بشكل عام كانت العلاقة بين العالم العربي / الإسلامي وأوروبا منذ القرن السابع الميلادي حتى نهاية القرن السابع عشر عدائية في مجملها، ذات مواجهات عسكرية بشكل مطرد. قد تكون هناك فترات سلمية تم فيها تبادل ثقافي دبلوماسي، مثل فترة عبد الرحمن الناصر (912-961م) في الأندلس، الذي تبادل السفراء مع عدد من الدول الأوروبية. وكذلك فإن عديدا من الخلفاء العثمانيين تبادلوا السفراء والهدايا والفنانين (مثل المهندس سنان، وغيره) مع الدول الأوروبية. ولكن هذه العلاقة كانت قصيرة وغير منتظمة مما لم يتح لها المجال للامتداد والتطور. وظل العالمان يجهلان الكثير عن بعضهما.
وجاء العصر الحديث بتجربة ليست أقل دموية، مثل الاستعمار الأوروبي للبلاد العربية، ليشي بمواقف أوروبية تتسم بعدم دعم (على أقل تقدير) أو حتى مواجهة القضايا العربية الكبرى في القرن العشرين، وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين. وبعد الحادي عشر من سبتمبر تلخصت العلاقة بين العالمين في كثير من الأحيان إلى تخوف شديد: فأوروبا تخشى آثار التطرف الذي يرونه إسلامياً، والعالم الإسلامي يخشى من عرقلة مشاريعه السياسية والاقتصادية من خلال سوء فهم لثقافته ودينه.
بالرغم من أن التاريخ يقدم الصراع ويرى تطور كل من العالمين مبنياً على تضعضع وضعف العالم الآخر، فإن المؤرخين كرسوا مفهوم هذه الثنائية الضدية في فهم العالمين. وجاءت دراسة المستشرقين للعالم الإسلامي لتفضح هذا التوجه الذي غلب عليه رسم الشرق الإسلامي على أنه (آخر) مقابل لأوروبا ومضاد لها. وكذلك ساهم المسلمون في رسم صورة داكنة عن أوروبا تتسم في العصور القديمة بالعداء، وفي العصور الحديثة بالانحلال وانعدام الأخلاقيات.
ومع بداية النهضة العربية في العقد الثالث من القرن الثامن عشر، بدأت نظرة جديدة لأوروبا، على يد رفاعة الطهطاوي الذي جاء كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ليضع وصف أوروبا في سياق ثقافي خالص، خالياً من الثنائية الضدية، ومتحرراً من العدائية التقليدية، ليفتح مستقبلاً جديداً للعلاقة بين العالمين. وكذلك فعل أغلب كتاب عصر النهضة حتى أواسط القرن العشرين. ولكن جاءت القومية العربية، بدرجاتها المختلفة، لتقع مرة أخرى، شأنها شأن كل الحركات القومية، في التضاد الثنائي بين العالمين: (نحن وهم)، حيث يوجد دائماً عالمان، متضادان في الغالب، لا يرتفع أحدهما إلا بانخفاض الآخر، ويتحدد الأول بنفي الثاني.
ولكن القرن الحادي والعشرين بدأ بخطوات إيجابية تزيد من التفاؤل بشأن التقاء العالمين في منطقة وسط، متحررة من المقابلة التاريخية. وبالرغم من أن أوروبا المعاصرة علمانية، إلا أن للدين المسيحي، بخلفيته اليهودية، تأثيرا كبيرا في الثقافة والسياسة فيها. لذلك جاءت دعوة حوار الأديان، التي أطلقتها المملكة لأول مرة في تاريخها، وهي البلد الذي تمثل الثقل العربي والإسلامي، لكي نتلمس طريقاً جديداً في العلاقة بين أوروبا (والغرب إجمالاً) والعالم الإسلامي، علاقة مبنية على التفهم، والتعايش، وليس على الاكتساح أو النفي. علاقة تتخلص من أحمال التاريخ السلبية لتبني مستقبلاً إيجابياً. من يبحث في التاريخ عن فواصل وقواطع ومسببات الحروب سيجد الكثير ولا شك، وكذلك من يبحث عن أرضية مشتركة وقنوات تفاهم وتعايش فإنه سيحظى ببصيص نور لا بأس به يمكن تغذيته والبناء عليه لإطلاق إشعاع يبني مستقبلاً جديداً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي