تطور علم الكلام والفلسفة .. انفصال لا اتصال
من الظواهر التي تلفت الانتباه في تاريخ الثقافة في الحضارة العربية الإسلامية فقدان الاستمرارية في كثير من حقولها، وبالتالي ظهور "بدايات جديدة" داخل الحقل الواحد، فضلا عن تعدد المراكز واستقلالها تحت تأثير التغيرات السياسية. وفيما يخص الحقل الذي نتحرك فيه هنا، حقل "المثقفين" في مجال الكلام والفلسفة يمكن أن نسجل الظاهرة التالية : لقد ظهر المتكلمون الأوائل في العصر الأموي، فبلغ "الكلام" عندهم أوجه في آخر هذا العصر مع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وكان موضوع الكلام هو الشأن السياسي معبرا عنه بمفاهيم دينية، إذ لم تكن السياسة قد استقلت بعد بمفاهيمها واصطلاحاتها، وإنما حصل ذلك في العصر العباسي مع انتقال ما يعرف بـ "الآداب" و"الأحكام" السلطانية إلى الحضارة العربية الإسلامية. ومع أن السياسة مورست في العصر العباسي الأول من خلال مسألة دينية، مسألة "خلق القرآن"، كما بينا في المقالات السابقة، فإن ظروف "محنة خلق القرآن" التي اتهم بعض المعتزلة بإشعال نارها تحت حكم المأمون، جعلت الجيل الثاني منهم ينقسم إلى فريقين:
- فريق وظفته الدولة (دولة المأمون والمعتصم والواثق) لصالحها ضد معارضيها من الفقهاء وأهل الحديث إلخ. ومن الشخصيات البارزة في هذا الفريق ثمامة بن أشرس وبشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد. أما ثمامة فكان قد التحق ببلاط العباسيين منذ زمن المهدي ليبرز على عهد هارون الرشيد، وليصبح من خاصة ابنه وخلفه المأمون الذي جعل منه مستشاره المكلف بـ "أمن الدولة" – حسب تعبيرنا المعاصر. ومع أنه لم يحضر "محنة خلق القرآن" ولم يشرف عليها, إذ توفي قبل قرار المأمون "امتحان" الفقهاء وأهل الحديث في مسألة "خلق القرآن" (218هـ) بخمس سنوات, فمن المؤكد أنه كان من المخططين لـ "إظهار المأمون لخلق القرآن ولعن معاوية" سنة 212 هجرية. وفي هذا الصدد تذكر بعض المصادر أن المأمون خاطب ثمامة بن أشرس يوما فقال: "يا ثمامة, قد علمت ما كنا قد دبرناه في معاوية (أي المناداة بلعنه), وقد عارَضَنا رأيٌ أصلح في تدبير المملكة", يعني بذلك رأي يحيى بن أكثم قاضي قضاته, وكان من أهل السنة, وقد عارضه في ذلك بقوله: "إن العامة لا تحتمل هذا ولاسيما أهل خراسان" (عرب خراسان الذين كانوا موالين للأمويين) وفي هذا نُصح, لكن فيه أيضا تحذير وتهديد. هذا عن ثمامة بن أشرس. أما بشر المريسي, فالمصادر كلها تؤكد أنه كان المروج لفكرة "خلق القرآن" وأنه كان يحضر مجالس المأمون مع ثمامة, وتحمله المصادر السنية مسؤولية دفع المأمون إلى القول بخلق القرآن, أي إلى توظيف هذه المسألة في مقاومة التيار السني المعارض، والعامل على رد الاعتبار للأمويين. وأما أحمد بن أبي داؤد فقد رأيناه حاضرا في جميع فصول المحنة, وقد تولى تسييرها والإشراف عليها. ومسؤوليته كأداة للسيطرة في يد المأمون والمعتصم والواثق زمن "المحنة" مسؤولية ثابتة لا مجال للشك فيها.
- هذا عن فريق المعتزلة الذي وظفته الدولة في خدمتها والتصدي لمعارضيها، أما الفريق الثاني، الذي لم ينخرط في صراع الدولة مع خصومها فقد اهتم بالرد على خصوم الإسلام من المانوية وغيرها و"التنظير" لأصول المعتزلة، مستفيدا مما كان يروج من مفاهيم وشذرات من الأفلاطونية المحدثة، خصوصا وقد كان هذا القرن قرن الترجمة إضافة إلى كونه قرن "علم الكلام". وكان على رأس هذا الفريق أبو الهذيل العلاف الذي يصفه الشهرستاني بأنه: "شيخ المعتزلة ومقدم الطائفة ومقرر الطريقة والمناظر عليها".
مع أبي الهذيل العلاف (135 - 235هـ)، إذن، تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ علم الكلام، مرحلة التنظير للعقيدة الإسلامية من طرف المعتزلة كما حددتها أصولهم الخمسة (التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والدفاع عنها بحجج عقلية اعتمدوا فيها قياس الغائب على الشاهد، قياس عالم الغيب (عالم الألوهية والأخرويات) على عالم الطبيعة والبشر، فاستعملوا خطابا ابتدعوا كثيرا من مفاهيمه من خلال الاحتكاك مع خصومهم من المانوية والفرق غير الإسلامية. أما دعوى بعض القدماء والمحدثين بكونهم تأثروا بالفلاسفة وبأرسطو بالذات، فهي محض تخمين! والواقع أنهم قد قاوموا بشراسة المبدأين اللذين يقوم عليهما الفكر الفلسفي اليوناني : مبدأ "لا شيء من لا شيء" (ويعني أن العالم قديم غير محدث ولا مخلوق)، ومبدأ "الطبع والطبيعة" الذي لا يعترف بتدخل الإرادة الإلهية فيما يحصل في العالم من تأثير بعض الظواهر في بعض (فإذا كانت النار تحرق القطن مثلا، فليس لأن الله جعلها كذلك، ويمكن أن يتدخل فيجعلها غير محرقة، بل لأن من طبعها وطبيعتها لا بد أن تحرق).
ومع أن أبا الهذيل العلاف كان معاصرا للكندي الفيلسوف فإنه لا شيء كان يجمع بينهما. ومع أن الكندي أكد على ثوابت الدين الإسلامي مثل فكرة الخلق وحدوث العالم، وعلى أن كل ما جاء به الرسول لا يخالف العقل إذا اعتُمِد التأويل الذي لا يتجاوز حدود "التجوز" أو المجاز لدى العرب الذين خاطبهم القرآن، فإنه لا أثر لخطاب "فيلسوف العرب" (الكندي) في خطاب المعتزلة، لا على صعيد المضمون ولا على صعيد المصطلح. لقد أنشأ هذا الجيل الجديد من المتكلمين خطابا خاصا بهم واعتمد مفاهيم ومصطلحات ابتكروها داخل حقلهم الكلامي، بعيدا عن المصطلح الفلسفي. لقد كانت هناك بين الطرفين – لا أقول قطيعة لأن العلاقة بينهما لم تكن من نوع علاقة السابق باللاحق - بل أقول كانت هناك مسافة كبيرة تفصل بينهما أفقيا وليس عموديا. والواقع أنه لم يحدث الالتقاء بين الكلام والفلسفة إلا في القرن الخامس الهجري مع الغزالي (450 - 505هـ) : أي بعد الكندي بقرنين، وبعد الفارابي بقرن. وبالتالي فالقرن الذي يفصل بين الكندي والفارابي كان قرن المتكلمين وحدهم: معتزلة ثم أشاعرة.
قرن من الزمان كان يفصل بين واصل بن عطاء (80 - 131هـ) مؤسس مذهب المعتزلة وبين أبي الهذيل العلاف ((135 - 235) منظر هذا المذهب، تماما كما كانت المدة نفسها تفصل بين الكندي (185 - 252) "أول فيلسوف في الإسلام" وبين الفارابي 260 - 339) "المعلم الثاني" (هو ثان ليس بالنسبة للكندي، بل بالنسبة لـ "المعلم الأول" : (أرسطو). وكما لم تكن هناك علاقة فكرية بين المتكلمين والكندي، لم تكن هناك رابطة فلسفية بين هذا الأخير والفارابي. كانت هناك لحظة تأسيسية وأخرى تنظيرية في علم الكلام (واصل بن عطاء - أبو الهذيل العلاف)، والعلاقة بينهما علاقة اتصال، وكانت هناك بداية تأسيسية أولى (الكندي) وبداية تأسيسية ثانية (الفارابي) والعلاقة بينهما علاقة انفصال!
فكيف نفهم هذا الوضع؟