استعدوا لاستقدام الأمريكان!
إننا بحق أمام ظاهرة جديدة ليست محصورة على هجرة الأدمغة الأمريكية الأصلية والمهاجرة، بل تمتد لكل الدول الغربية المتقدمة التي تمتعت لقرون بمواهب العالم لتصب في مشروعها السياسي، الاقتصادي، والثقافي.
الآن جاء دور الموجة الجديدة من هجرة العقول..، وهي موجة مختلفة عن سابقتها، لأن مصدر الهجرة هي الوجهة نفسها التي ظلت أكثر من ثلاثة قرون تشكل مغناطيسا باهرا وحلما دائما لكل من يتطلع إلى الاستقرار في العالم الجديد.. أمريكا. نعم أمريكا ستكون من الآن وصاعدا مركز تصدير للمواهب والعقول إلى العالم ذاته، الذي صب أبرز علمائه وعباقرته في البوتقة الأمريكية، ما أسهم في القرن الماضي لأن تكون أمريكا وبلا منازع الإمبراطورية الرائدة والمهيمنة في مجالات العلوم، التقنيات، الاقتصاد، والسياسة، بل حتى المظاهر الاجتماعية حتى صار "الحلم الأمريكي" و"القرن الأمريكي" رمزين يختصران التفوق والهيمنة من خلال القوة الناعمة، فضلا عن الخشنة التي تمثلت في قوة عسكرية متغطرسة عرفت أمريكا محدوديتها في آخر مغامرتها الفاشلة في العراق، على سبيل المثال.
بول سافو من معهد الدراسات المستقبلية هو من أهم من درس الهجرة المعاكسة من أمريكا إلى بقية دول العالم، بدأت هذه الموجة في التسعينيات من القرن الماضي حينما بدأت مجموعات من العلماء ورجال الأعمال الأمريكيين بالهجرة المعاكسة إلى أوطانهم الأصلية، ولا سيما الأمريكيين من أصول هندية وصينية، وشكلت هذه المجموعات نموذجا ناجحا يأخذ بأفضل ما في النظام الأمريكي من سلاسة ومرونة وابتكار ليسهم في النمو الكبير الذي شهدته الصين والهند وليركزوا صادراتهم ومنتجاتهم للأسواق العالمية "والأمريكية خصوصا"، إضافة إلى الأسواق المحلية. ورصد سافو هذه الظاهرة مبكرا ونشر عنها عديدا من الدراسات التي تقول بوضوح إن هجرة العقول من أمريكا قد بدأت، وإن الشارع ذا الاتجاه الواحد قد أصبح شارعا باتجاهين، وإن كان الاتجاه من أمريكا للعالم ما زال ضيقا مقارنة بالاتجاه المعاكس.
لقد أسهمت قرارات الرئيس الأمريكي البائس جورج بوش في إضعاف الهجرة إلى أمريكا من الدول الأخرى، ما عده المعنيون أكبر خطأ استراتيجي أسهم في خفض تنافسية أمريكا أمام الدول الأخرى التي أدركت أن الصراع صراع معرفي، يقف الإنسان الموهوب والمؤهل في قلب معادلته، ما دفعها إلى إقامة برامج لجذب أبنائها المقيمين في الولايات المتحدة "وكما تفعل الآن كثير من الدول الآسيوية"، فضلا عن إدارة هجرة عقول أبنائها بطريقة جديدة كما سنرى.
الجديد في موضوع هجرة العقول أنها انتقلت من الأمريكيين المهاجرين إلى الأمريكيين الأصليين أو الواسب WASP "وهم البيض الأنغلو ساكسون والبروتستانت" وهؤلاء هم من أقاما هذه الإمبراطورية ولا يزالون يتحكمون في أهم مقدراتها، وهذا بالضبط ما يتنبأ بول سافو بأن يكون أهم ظاهرة في موضوع الهجرة والهجرة المعاكسة، ويشير هنا إلى أن الشركات الأمريكية العملاقة تواجه الآن شحا كبيرا في قدرتها على اجتذاب المواهب من الخارج بسبب قوانين الهجرة سيئة السمعة التي فرضتها الإدارة الأمريكية السابقة، في الوقت نفسه برزت أمام المؤسسات والشركات الأمريكية العملاقة مشكلة جديدة لم تكن في الحسبان، وهي اتجاه الأمريكان الموهوبين للعمل خارج الولايات المتحدة، ما قد يشكل مرحلة جديدة في نظام اقتصادي عالمي جديد.
وتشير الأرقام والإحصاءات إلى أن الدول الآسيوية تحديدا بدأت برنامجا واضح المعالم في استقطاب علماء وباحثين ورجال أعمال ليضيفوا من خلال تجربتهم ونشاطهم إلى اقتصادات هذه الدول بؤرا معرفية وتقنية تصدر إلى باقي دول العالم "وفي مقدمتها أمريكا"، كما يسهمون في إنتاج اختراعات ومكتشفات ومنتجات مبهرة وجديدة. ونشير هنا إلى تجربة سنغافورة في اجتذاب أهم علماء المركز الوطني الصحي NIH إلى هذا البلد لتنافس أمريكا نفسها في هذا المضمار خلال سنين قليلة، كما نشير إلى انتقال المعرفة والتقنية الزراعية من خلال هجرة أدمغة أمريكية إلى البرازيل خلال السنوات الماضية، إضافة إلى مئات الأمثلة في الصين والهند.
إننا بحق أمام ظاهرة جديدة ليست محصورة على هجرة الأدمغة الأمريكية الأصلية والمهاجرة، بل تمتد لكل الدول الغربية المتقدمة التي تمتعت لقرون بمواهب العالم لتصب في مشروعها السياسي، الاقتصادي، والثقافي.
الموجة الأولى كانت من الشرق إلى الغرب، والموجة الثانية كانت من الغرب إلى الشرق، ولكن من مهاجرين هنود وصينيين وعرب عادوا إلى جذورهم.
أما الموجة الثالثة فهي من الغرب "النقي" إلى بقية دول العالم الناشئ كما يطلق عليه اليوم، بعد أن كان يدعى العالم الثالث قبل سنوات قليلة، ما يفتح الباب لمرحلة استقدام الأمريكان من كل حدبٍ وصوب.
هناك موجة رابعة في الطريق، وهذا موضوع حديثنا في سطور مقبلة.