الحصانة القضائية لشركات النفط الحكومية أمام المحاكم الأمريكية
نشرت جريدة "الاقتصادية" في عددها الصادر يوم الإثنين 29/1/1430هـ الموافق 26/1/2009، خبراً مفاده أن قاضيا في المحكمة الفيدرالية الإقليمية في مدينة هيوستن في ولاية تكساس الأمريكية، أصدر حكماً يقضي برد ست قضايا رئيسية ضد شركة الزيت العربية السعودية "أرامكو السعودية" وشركة البترول الوطنية الفنزويلية "بتروليوس دي فنزويلا" وشركة روسية هي "أو إيه أو لوك أويل" (تستهدف كل قضية واحدة أو أكثر من هذه الشركات الثلاث)، إلى جانب الشركات التابعة لها في الولايات المتحدة. وجاء هذا الرفض استجابة لطلب تقدمت به الشركات المدعى عليها في نيسان (أبريل) 2008.
وكانت هذه القضايا الست قد رفعها في الأصل أطراف عدة اعتبارا من تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 في محاكم فيدرالية إقليمية مختلفة في الولايات المتحدة ضد "أرامكو السعودية" و"بتروليوس دي فنزويلا" و"لوك أويل" والشركات التابعة لهذه الشركات الثلاث في الولايات المتحدة، وإن اختلفت الشركات المدعى عليها من بين هذه الشركات الثلاث من قضية إلى أخرى (تم الادعاء على "أرامكو السعودية" في ثلاث من هذه القضايا).
وزعم المدعون أن الشركات المدعى عليها تشارك في مؤامرة غير قانونية بقيادة منظمة الأقطار المصدرة للبترول "أوبك" للتلاعب في سعر الزيت الخام والمنتجات ذات الصلة به في مخالفة لقوانين مكافحة الاحتكار الأمريكية، ما يسبب حسب زعمهم، ضرراً اقتصادياً بالغاً لمشتري المنتجات البترولية المكررة بالجملة في الولايات المتحدة، وطلبوا تعويضات مالية تبلغ مئات المليارات من الدولارات، إلى جانب البيع الجبري للأصول العائدة لشركة أرامكو السعودية والشركات الأخرى المدعى عليها في الولايات المتحدة، كما كانت لهم مطالب أخرى.
واحتجت الشركات المدعى عليها بأن هذه القضايا تتضمن طعناً في الحق السيادي للمملكة العربية السعودية وفنزويلا وروسيا في السيطرة على استغلال الموارد البترولية لهذه الدول، وهو حق لا يمكن للمحاكم بموجب القانون الأمريكي (وفقاً للمبدأ المعروف باسم "تصرفات الدول" في القانون الأمريكي) إصدار أحكام بشأنه، وأن هذه القضايا تثير مسائل سياسية تمس العلاقات الخارجية للولايات المتحدة ومن غير الملائم للمحاكم البت فيها. وقبل القاضي الناظر في القضية في هيوستن هاتين الحجتين لرفض القضايا.
وطلب دفاع الشركات المدعى عليها، الذي أشرفت عليه وزارة البترول والثروة المعدنية في السعودية، إقناع دول عديدة بتقديم إفادات إلى المحكمة التي تنظر في القضية تؤيد فيها دفوع الشركات المدعى عليها. وشمل ذلك معظم الدول الأعضاء في "أوبك" والمكسيك والنرويج وروسيا، إلى جانب الغرفة التجارية الأمريكية وإفادات من شخصيات عامة معروفة ولها خبرة واسعة في مجال العلاقات الدولية ووضع الأسواق البترولية. وقد أسهمت تلك الإفادات والتأييد من تلك الجهات في حصول هذه النتيجة.
وبموجب قرار المحكمة فإنه يحق للمدعين تقديم استئناف للحكم خلال 30 يوماً من تاريخ صدور قرار المحكمة إذا ما رغبوا في ذلك.
وأضافت الجريدة في نهاية تقريرها حول هذا الخبر، بأن الحكم يعد انتصاراً للمملكة من جهة، وللدول المنتجة والمصدرة للنفط في منظمة أوبك وخارجها من جهة، أخرى، وتأكيداً من محكمة فيدرالية أمريكية على حق سيادة الدول على مواردها وقرارات الإنتاج لديها.
وتعليقاً على هذا الخبر نقول ما يلي:
أولاً: من المبادئ المستقرة في القانون الدولي العام مبدأ (الإقليمية)، ويعني عدم جواز تطبيق قانون أي دولة على ما يحدث من تصرفات خارج حدود إقليمها، إلا أن لهذا المبدأ استثناءات يضيق المجال هنا عن الحديث عنها، ونكتفي بالإشارة هنا إلى أنه في مجال تطبيق قوانين مكافحة الاحتكار فإن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية وغيرها تطبق هذه القوانين على أفعال وتصرفات تحدث خارج أقاليمها إذا كان لها تأثير ضار في الأسواق الداخلية. ومن هذا المنطلق أقيمت الدعاوى ضد الشركات النفطية سالفة الذكر أمام المحاكم الأمريكية بذريعة أن تصرفات هذه الشركات بشأن تحديد الإنتاج أثرت تأثيراً ضاراً في أسعار المنتجات النفطية في السوق الأمريكية، وهي ادعاءات كاذبة من الناحية الاقتصادية، ويخرج تفنيدها عن نطاق هذا المقال. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنه عندما كانت أسعار النفط ترتفع ارتفاعات متتالية، كان ذلك يعود إلى أسباب وعوامل عديدة خارجة عن إرادة دول أوبك، وكانت "أوبك" تحاول كبح جماح ارتفاع الأسعار بزيادة الإنتاج حتى أصبح المعروض آنذاك من النفط أكثر من الطلب، ومع ذلك استمرت الأسعار في الارتفاع.
ثانياً: من القواعد المستقرة في القانون الدولي العام أن الدول تتمتع بالحصانة القضائية في مواجهة القضاء الوطني للدول الأخرى. وقد قامت هذه القاعدة على أساس فكرة السيادة والاستقلال والمساواة القانونية بين الدول، ومن ثم لا يجوز مقاضاة الدولة أمام محاكم أجنبية إلا إذا تنازلت تنازلاً صريحاً عن حصانتها القضائية، ورضيت أن تخضع بإرادتها لولاية المحاكم الأجنبية.
ثالثاً: لقد ثار نقاش في فقه القانون الدولي الخاص حول مدى تمتع الشركات الحكومية والمشاريع العامة التي تؤسسها الدولة لإدارة نشاط تجاري أو اقتصادي بالحصانة القضائية. وظهر في هذا الصدد رأيان أشارت إليهما الدكتورة حفيظة السيد حداد، الأستاذة في كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، في كتابها (القانون القضائي الخاص الدولي)، ونوجزهما هنا على النحو التالي:
1- الرأي الأول حدد معيار تمتع المشروع العام الأجنبي بالحصانة القضائية من عدمه بالشخصية القانونية المستقلة، فإذا كان المشروع العام الأجنبي يتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن الدولة، فإنه لا يتمتع بالحصانة القضائية، وبالتالي يخضع لولاية القضاء الوطني، أما إذا كان المشروع العام لا يتمتع بالشخصية القانونية ويعد مندمجاً في الشخصية القانونية للدولة، فإنه يتمتع بالحصانة القضائية ولا يخضع لولاية القضاء الوطني، فمعيار التمتع بالحصانة القضائية يرتكز وفقاً لهذا المعيار على وجود أو انتقاء الشخصية القانونية المستقلة للمشروع الأجنبي العام.
ولقد انتقد بعض الفقهاء هذا المعيار على أنه معيار تحكمي، حيث إن إضفاء الشخصية القانونية المستقلة على مشروع عام أو عدم إضفائها عليه يعد مجرد قرار إداري ليس له أي مغزى سياسي، وبالتالي فإنه لا ينبغي له أن يؤثر في تحديد ما إذا كان المشروع العام الأجنبي يتمتع بالحصانة من عدمها، كذلك فإن الشخصية المعنوية المستقلة لا تعدو أن تكون (وسيلة فنية تلجأ إليها الدولة لإدارة مرافقها على وجه أفضل، ومن ثم فلا يجوز أن يكون هذا الوضع المتعلق بالتنظيم الفني للمرافق العامة في دولة ما، سببا في حرمان هذه الدولة من حصانتها المقررة لها وفقاً لمبادئ القانون الدولي العام).
والواقع أنه أمام الانتقادات الموجهة إلى هذا المعيار، فإن القضاء في بعض الدول مثل فرنسا عدل عن هذا المعيار، ولذلك فإن الحصانات القضائية قد منحت لمشاريع تتمتع بشخصية قانونية مستقلة، كما أنها قد رفضت في مواجهة بعض الهيئات والمنظمات التي لا يعدو أن تكون مجرد انبثاق أو تعبير عن الدولة ولا تتمتع بأي شخصية قانونية مستقلة عنها.
2- الرأي الثاني لا يعتد بالشخصية القانونية للمشروع العام الأجنبي، وإنما المعيار لديه يتحدد بمدى خضوع المشروع العام الأجنبي لأوامر حكومته، فإذا كان المشروع العام الأجنبي يتصرف بناء على أمر من حكومته ووفقاً لتعليماتها ولحسابها، فإن هذا المشروع العام الأجنبي يتمتع بالحصانة القضائية شأنه في ذلك شأن الدولة الأجنبية ذات السيادة.
أما إذا كان المشروع العام على فرض عدم تمتعه بالشخصية القانونية المستقلة، لا يتصرف باعتباره ممثلاً عن دولة ولحسابها، فإن الحصانة القضائية تحجب عن التصرفات التي أجراها بهذا الوصف. وتأخذ بهذا المعيار قوانين ومحاكم بعض الدول مثل: فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وبناء على ما سبق فقد ذهب الرأي الراجح في فقه القانون الدولي الخاص إلى أن الدفع بالحصانة القضائية هو دفع بعدم قبول الدعوى وليس دفعاً بعدم الاختصاص الولائي، فالقضاء الوطني يمتنع عن نظر الدعوى في مواجهة المدعى عليه الأجنبي، لا على أساس عدم اختصاصه، وإنما بسبب صفة المدعى عليه التي تجعله بمنأى عن الخضوع لقضاء دولة لا ينتمي إليها.
رابعاً: بناء على ما تقدم وحيث قد استقرت قاعدة آمرة في القانون الدولي العام أن للدولة السيادة على جميع ثرواتها ومواردها الطبيعية وحق التصرف فيها على النحو الذي يحقق مصالحها الوطنية، وحيث إن شركات النفط الحكومية تتصرف في تحديد إنتاج وبيع وتصدير النفط بناء على أوامر وتعليمات حكوماتها، فإنها تتمتع بالحصانة القضائية، وبالتالي فإن حكم المحكمة الفيدرالية الأمريكية في هيوستن برد الدعاوى التي أقيمت ضد هذه الشركات، كان حكماً صحيحاً يتفق مع المعيار الواجب الأخذ به كضابط لمدى تمتع المشاريع العامة الأجنبية بالحصانة القضائية.