خطر الانفجار الفقاعي الوهمي على الاقتصاد
لا يزال العالم يعاني آلام الركود العالمي الذي كان سببه انفجار فقاعتي الأصول والائتمان نتيجة التساهل المفرط من فقاعة الائتمان، لأن النظام الغربي يعتقد أن النظام المالي الذي يستحوذ على أموال طائلة تمكنه من التغلب على أية مخاطر محتملة، ولم يكن أحد يساوره الشك في أن المديونية ستتسبب في كل هذا القلق الذي يعيشه العالم الآن.
ولم يأخذ الغرب العبرة والدرس من الأزمة اليابانية التي استمرت نحو 19 عاما حتى أتت الأزمة الحالية، لكن خروج الولايات المتحدة من أزمة التكنولوجيا عام 2000 ونجاحها في تحميلها العالم جعلها تستمر في غرورها وكبريائها، وبأن الأزمات اللاحقة لن تطولها نتيجة ابتكارات المشتقات وبيعها إلى العالم، ولم تأخذ الدرس من الكساد العظيم في عام 1929 باعتبار أن العولمة المالية ستنقذها، فأهملت الأخذ بنظرية كينز الذي أنقذ الرأسمالية من الرأسمالية التي أتى بها آدم سميث (اليد الخفية) للسوق، الذي أصر على أن تتدخل الدولة للحفاظ على سلامة الاقتصاد الوطني، لكن عاد الغرب مرة أخرى إلى نظرية آدم سميث في الستينيات والسبعينيات زمن ريجان وتاتشر وجعل من أصولية نظرية آدم سميث مرجعية، نتج عن ذلك ارتفاع نسب المديونية في البنوك الاستثمارية إلى أكثر من 30 ضعفا من قيمة الموجودات، وأكثر من ستة أضعاف الموجودات في الصناديق الاحتياطية التي تعد الملاذ الآمن للاقتصاد عند حصول أزمات مالية، الأمر الذي زاد الأرباح على حساب الاقتصاد والمجتمع بشكل هائل، حتى ارتفعت سندات مقايضات التخلف عن السداد العالمية المستحقة من 1563 مليار دولار في النصف الأول من عام 2002 إلى 54611 مليار دولار في النصف الأول من عام 2008 حسب بيانات صندوق النقد الدولي، أي أنها أصبحت قريبة من إجمالي الدخل المحلي العالمي لعام 2008 بنحو 62054 مليار دولار، وتقدر تكلفة الرهون العقارية بنحو 14 تريليون دولار، إضافة إلى المشتقات المالية التي تقدر بنحو 665 تريليون دولار في العالم. ويعتقد أن المبالغة في الاستهلاك العالمي هو الذي عزز من تراكم الديون، لأن الاستهلاك العالي يقلل من الادخار، والفرد في الولايات المتحدة يستهلك ثلاثة أمثال الفرد في الصين مثلما هو الاستهلاك في دول الخليج وقد يكون أكثر بسبب أن الولايات المتحدة تعيش على تدفقات مالية خارجية تصل إلى ثلاثة مليارات دولار يوميا تأتي من الصين والخليج ودول أخرى نتيجة الادخار أو الفوائض وعدم توافر بيئة استثمارية جاهزة للاستثمار في بلدانها استخدمت في الرفاهية المفرطة.
بينما يحذر الإسلام من المبالغة في تلك الرفاهية (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) (لينفق ذو سعة من سعته) (ولينفق مما أتاه الله) وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين – الكالئ بالكالئ – وينفر الإسلام الناس من الاستدانة وفتح الباب على مصراعيه وإغراق الناس في الديون (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من المغرم لان الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف، فلا يستدين الإنسان من أجل السفر والسياحة أو لشراء كماليات تفوق طاقته المالية، فالدين مذلة.
واعتبر الإسلام بيع الدين غرم على غرم، فنهى عن التوسع في الائتمان والإفراط في الرفاهية نواة الرأسمالية، وفي الفقه الإسلامي يسمح بالتنضيد أي تحويل الأصول إلى سيولة، وقد سبق أن قال أرسطو إن النقود لا تلد النقود وإنما تنمو بالعمل، وأتى الإسلام ونهى عن التعامل بالربا (ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) ظهر التعامل به في القرن 15، وهو محرم في جميع الأديان، لأن الربا ظلم للآخرين ويغيب العدالة، ويفترض أن يشترك رأس المال في الغرم والربح حتى يهتم المستثمر بتقليل المخاطر وبالإبداع.
ونتيجة تكدس الأموال الأجنبية وتشبع الاستثمار الإنتاجي في الولايات المتحدة أدى إلى إقراض فئات غير مليئة برهون عقارية، والغريب أن وكالات شبه حكومية كانت مسيطرة على 70 في المائة من الرهون العقارية في الولايات المتحدة حتى بلغت الديون 500 تريليون دولار في جميع القطاعات بما فيها الرهون العقارية، تحولت إلى رأسمالية متضخمة، أي أنها أصبحت عشرة أضعاف الناتج المحلي العالمي، بينما نجد أن قيمة أسواق الأسهم العالمية تبلغ 149 تريليون دولار منتصف عام 2008 أي قبل أن تنخفض إلى النصف نتيجة آثار الأزمة المالية العالمية.
التطور البشري اليوم يمر عبر آلام الرأسمالية التي كانت تخشى من برابرة العصر الحديث الإسلاميين والقوميين الذين يريدون القضاء على الرأسمالية. المشكلة الأساسية في الأزمة سماحها بتداولات بيع الديون كسلعة يتم تداولها، فزادت ديون الناس دون أن تزيد القيمة الحقيقية في المجتمع، لأن الربا هو زيادة في الدين، والدين في الأصل لا يزيد، فالزيادة تأتي من مال آخر، والدين لا يخلق قيمة مضافة.
والتمويل لا بد أن يكون خادما للإنتاج الفعلي ومن الاستثمار الحقيقي، حتى تتوزع الفوائد، ويمكن أن يتم التمويل العقاري بالمرابحة أو بالإيجار المنتهي بالتمليك بدلا من التوجه نحو المشتقات التي أمنت على الديون العقارية ثم بعثرت هذه الديون على المضاربات في الأسواق المستقبلية بعقود وهمية راهنت على تغيرات الأسعار مثلها مثل البيع على المكشوف، فتضخمت الأحجام الفعلية للقيم أضعافا مضاعفة بسبب التراكمات والتوريق والمعاملات التي تنتج ناتجا صفريا، فتنتج هرما بعيدا عن الإنتاج الحقيقي، وأصبح الاقتصاد الحقيقي يمثل 5 في المائة والباقي معاملات نقدية، وكأننا نعيش في نادي قمار عالمي، وهو معاكس لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (تسعة أعشار الرزق في التجارة)، إذ أن طبيعة التمويل الإسلامي المشاركة في الأصول حتى تجنب المؤسسات المالية التضخم في التقييمات، وبالتالي بقاء الأصول ضمن قيمها الحقيقية بعيدة عن المضاربة، وتحرص على أن الدين لا يزيد على ثلث قيمة أصول الشركة وليس ثلث القيمة السوقية.
فالإسلام حثّ أتباعه على النزاهة والتعفف عن أكل الأموال بالباطل (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، وقد اشترى رجل بيتا فوجد فيه جرة ذهب، فرجع إلى البائع وذكر له ما وجده فقال له البائع: هذا من نصيبك، فقال له المشتري: ولكني اشتريت البيت ولم اشتر جرة الذهب، فذهبا إلى قاضي ليحكم بينهما وديا، فهدى الله القاضي فسأل كليهما ألديكما ولد، فقال كل منهما نعم، فنصحهما أن يزوجا ولديهما وينفقا عليهما من هذا الذهب. وقصة أخرى، سأل رجل عن قيمة فرس فقال له بنحو 80 دينارا فقال له اشتريه منك بأكثر فقال لك ذلك فقال أشتريه بمائة دينار فاشتراه، فسأله عن سبب شرائه بأعلى مما ذكر فقال له بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لعامة الناس وأن الفرس هذه هي قيمتها.