هل من فكر استراتيجي منقذ؟
عدد من قيادي الصف الأول وبعض من الصف الثاني وشيء من الصف الثالث، ودون معرفة عميقة بل حتى متوسطة العمق بنظرية التخطيط الاستراتيجي كفكر وتطبيقات، ودون التعرف على منهجية هذا النوع من التخطيط ونوعية مخرجاته، ودون التمرس في مهارة المشاركة في إعداد هذا النوع من الخطط، ومن خلال اجتماعات عدة، واستنادا إلى معلومات سطحية ومنقوصة وغير مترابطة، ودون الاستعانة بخبير ممارس لِلتخطيط الاستراتيجي يُيَسِر هذه العملية التخطيطية التي تستدعي توافق إيرادات وتفكير استراتيجي من مفكرين ذوي معارف عميقة، يقوم هؤلاء جميعا بإعداد خطة استراتيجية لمؤسستهم التي يعملون فيها، ليخرجوا بخطة أفضل ما يقال عنها إنها خطة خمسية أو خطة تقليدية إن لم تكن سوى مسخ خطة.
ورغم أن هؤلاء قد يكونون أفضل حالا بكثير ممن يرى أن التخطيط الاستراتيجي يقتصر على كتابة الرؤية والرسالة وشيء من القيم من قبل كائن من كان لتوضع في مطبوعات الشركة وفي مدخلها للمباهاة وللتضليل، وأفضل حالا أيضا ممن لا يرد التخطيط في أجندته، أما من يقوم ببذل الجهد والوقت والمال لإعداد خطة ليضعها في الأدراج والعمل بعشوائية تهلك الموارد من مال وكوادر بشرية ومواد ووقت فذاك يستحق العرض على طبيب نفسي للعلاج.
في هذا العالم المفتوح والمتواصل أصبح الجميع أمام فرص وأمام مخاطر، ودون أدنى شك سيأكل الأسرع الأبطأ، وسيأكل الأقوى الأضعف، وسيأكل العيار مال البخيل، وسيلعب العشوائي دور الضحية في الأدوار التي تضعها خطط الآخرين الأكثر دهاء، ولا شك أن اغتنام الفرص وتجنب المخاطر يستدعيان إعداد خطط استراتيجية من قبل موارد بشرية مؤهلة وماهرة في هذا النوع من التخطيط المتميز والخطير أيضا، موارد بشرية تستند إلى فهم عميق لصورة مترابطة الأجزاء وواضحة ومتكاملة رسمها محللون متمرسون في التشخيص التدقيق والسليم وبعد النظر في بيانات ومعلومات الدراسات الحديثة الدقيقة والشاملة.
هؤلاء ندرة لأننا كنا نعيش انغلاقا اقتصاديا ودعما وحماية مكنت كثيرا من تحقيق الأرباح والأهداف دون استخدام أدوات المنافسة التي أصبح لا مفر من استخدامها في ظل المنافسة الشرسة في كافة مساحات التنافس (الحرب) السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هذا الانغلاق الذي أدى إلى عدم الحاجة لمؤسسات الدراسات ومراكز التخطيط الاستراتيجي القادرة على جذب واحتضان الكفاءات الوطنية الواعدة القادرة على التحليل والتشخيص وطرح الحلول العلاجية والتطويرية الاستراتيجية الابتكارية.
وما إن سمعنا بالتخطيط الاستراتيجي، وفي ظل غياب الكفاءات طفقنا نخطط استراتيجيا دون أن نعد العدة اللازمة لمثل هذا التخطيط، المتمثلة في تأهيل القيادات لمعرفة التخطيط الاستراتيجي فكرا وممارسته مهارة، وتطبيق نتائجه على أرض الواقع، المتمثلة أيضا في تحفيز ودعم مراكز الدراسات الاستراتيجية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كي تكون مراكز وطنية ترفدنا بالخطط الاستراتيجية الحقيقية (لا الصورية) القابلة للتطبيق في بيئتنا بما يمكننا من ترشيد الطاقات والموارد، وتحقيق أعلى كفاءة إنتاجية في أقل وقت ممكن بدل الهدر الكبير في المال، والجهد، بل الوقت أيضا الذي لا سقف له لدى كثير من المؤسسات والأفراد - للأسف الشديد.
إحدى الجهات استغرقت أكثر من عشر سنوات في إعداد الخطة الاستراتيجية واعتمادها، وعندما اطلعت على هذه الخطة قلت في نفسي "شر البلية ما يضحك"، عشر سنوات في الإعداد و20 سنة لنكون في مصاف الدول المتقدمة علميا وتقنيا رغم أن الأخيرة تملك محركات تخطيط وتنفيذ ابتكاري وإبداعي جبارة تعمل بالطاقة النووية، وتزداد قوتها بمرور الزمن مقابل محركنا الذي يعمل بالفحم الحجري، الذي تزداد قوته ببطء شديد وكأنه في حالة ثبات، كيف لنا أن نكون في مصافهم وهذا حالنا وحالهم؟ لم أستطع فهم هذه المعادلة بتاتا!! والأمثلة على الخطط الاستراتيجية المخجلة كثيرة ولا حصر لها وإن كان هناك إضاءات "كالأعور بين العميان".
استراتيجية تعني حرفيا حسب اللغة اليونانية التي اشتقت منها الدهاء في الـمـناورة العسكرية المصمـمة لتضليل أو خدعة أو مباغتة أو مفاجأة العدو لتحقيق الانتصار في ساحة تشهد منافسة شديدة (كما هو الحال الآن) أو تشهد ندرة في عناصر الإنتاج (المال، الرجال، الأجهزة والمعدات) أو ضعف التحالفات إلى غير ذلك، ولا شك أن هذا يعني أن المخاطرة وعدم التيقن في اتخاذ القرارات بمعزل عن المعلومات الكاملة، والتفكير الابتكاري والإبداعي للوصول إلى ما هو جديد وغير مسبوق، والمناورة والدهاء فضلا عن حوار الإيرادات، وتحديد الأولويات لتخصيص الموارد تعد من أهم ملامح الخطة الاستراتيجية، وإلا كانت خطة تقليدية أو خمسية لا أكثر ولا أقل.
وبكل تأكيد نحن أبعد ما نكون عن هذا كله، فهل من فكر استراتيجي منقذ لنا مما نحن فيه من خلط بين التخطيط التقليدي والتخطيط الاستراتيجي لنخرج بخطط استراتيجية حقيقية تُمكِن مؤسساتنا الحكومية والخاصة وغير الربحية من تحقيق مراكز تنافسية متقدمة بالاستغلال الأمثل للموارد لاغتنام الفرص وتجنب التهديدات، كلنا أمل بمفكرينا في العلوم الإدارية وغيرها من العلوم أن ينقذونا مما نحن فيه من وهم استراتيجي جعلنا أكثر ما نكون بعدا عن التخطيط الاستراتيجي الفاعل، وكلنا أمل أن يجدوا حلا استراتيجيا غير مألوف لمعالجة هذه المشكلة دون أعذار.