الأخلاق كعامل اقتصادي

" الأخلاقيات هي أفضل الطرق لقيادة البشرية من أنفها"
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

لو كانت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة المحافظة البارونة مارجريت تاتشر، قادرة على تركيب جملة مفيدة ( تعيش الآن حالة الخرف)، لطالبت بإزاحة زعيم حزب المحافظين المعارض ديفيد كاميرون عن موقعه. ولو كانت لا تزال حديدية (لا ورقية)، لقذفت كاميرون بحقيبة يدها. فالرجل مس محرمات الفكر المحافظ، حين طالب في منتدى دافوس الأخير أقوى المصرفيين العالميين الذين احتشدوا هناك، بضرورة التزام الأخلاق، ضمن ممارسة أدبيات الفكر الرأسمالي. يا لها من "ثورة" يقودها زعيم الحزب الأكثر اندماجا مع هذا الفكر، ويا لها من انتفاضة، ما كانت لتنفجر، لولا الأزمة الاقتصادية العالمية، التي لا يعرف أحد متى توقف حممها. ذكرتني "ثورة" كاميرون، بـ "ثورة" رئيس الوزراء البريطاني العمالي السابق توني بلير، عندما ألغى في منتصف تسعينيات القرن الماضي ( قبل وصوله إلى السلطة في العام 1997)، البند الرابع من دستور حزبه، الذي ينص على حتمية امتلاك الدولة وسائل الإنتاج, فالأول اقترب من جهة اليسار، والثاني دنا من جهة اليمين. لكن.. لا الأول ولا الثاني يروقان لمارجريت تاتشر. فلا أزال أذكر ردها الصادم في حوار صحافي أجريته معها أواخر ثمانينيات القرن الماضي، على سؤال عن مكانة المجتمع، في تركيبة الحياة العامة. ماذا قالت؟: "عن أي مجتمع تتحدث؟". ثم تابعت وأنا مذهول أمام عدوانية الرد: "لا يوجد شيء اسمه مجتمع، هناك السوق ومعاييرها"!
وبعيدا عن تاتشر وفكرها المادي، فالأزمة الاقتصادية أطاحت – من ضمن ما أطاحت - بكثير من المفاهيم الاقتصادية، وأوجدت مساحة للأخلاق لم تكن موجودة في اقتصاد السوق، بل إن الأزمة طرحت – قسرا - الأخلاق كعامل اقتصادي، لا ميزة فردية. فالذي يطالب بها، ليس الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، ولا زميله الكوبي راؤول كاسترو، ولا زميلهما الآخر الليبي معمر القذافي. الذي يطالب بها زعيم محافظ تربى على "الفكر التاتشري" – إن كان فكرا – ونشأ في ظل ممارسة مادية صرفة لهذا "الفكر". لا شك في أن زعيم حزب المحافظين البريطاني حاول منذ وصوله إلى موقعه الابتعاد بعض الشيء عن الإرث التاتشري. لكن في صيحته الأخيرة ابتعد كثيرا عن هذا الإرث، بحيث أعلن بوضوح : "أن معايير اقتصاد السوق كانت خاطئة", و"أن الشركات الكبرى، بأدائها ومفاهيمها هي المسؤولة المباشرة عن الأزمة العالمية" التي نعيش ضرباتها, ومضى أبعد من ذلك حين قال أمام المصرفيين العالميين الكبار: "لقد حان الوقت لوضع السوق ضمن إطار أخلاقي، حتى لو أدى الأمر إلى الوقوف في وجه الشركات والمؤسسات التي تسهم في جعل حياة الأسر والأهالي أكثر صعوبة ".
مرة أخرى.. إنهم المحافظون "الثائرون" الذين يبحثون عن "الأخلاق الاقتصادية" – إن جاز التعبير- بعد أن اقتنعوا، بأنه لا يمكن فصل أي حراك اقتصادي عن "الآلية" الأخلاقية، وأن المجتمع – على عكس ما ترى تاتشر - هو المكون الرئيسي لأي كيان إنساني، ومن الخطورة بمكان محاولة تهميشه، وإلا... فإن الكوارث الاقتصادية ستنال من الجميع. من الموظف والمتقاعد إلى المستثمر ورجل الأعمال. ومن ربة الأسرة التي تجهد نفسها في "عمليات اقتصادية" منزلية لا تنتهي لحرص النفقات، إلى حاكم المصرف المركزي الذي يناضل للحفاظ على قيمة عملة بلاده. إن الممارسة الأخلاقية المطلوبة، يجب أن تطول بصورة رئيسية رؤساء المؤسسات والشركات – ولاسيما الكبرى منها – فقد بدا واضحا أن الأزمة الراهنة، التي هزت وأضعفت مؤسساتهم، لم تصل إلى جيوبهم. فعلى سبيل المثال، قام رؤساء الشركات المندرجة ضمن بورصة "وول ستريت" الأمريكية – بكل صفاقة – بمنح أنفسهم أكثر من 18 مليار دولار أمريكي كمكافآت عن العام الماضي!. ولكي تزيد الصفاقة بشاعة، منح هؤلاء أنفسهم الأموال نفسها كمكافآت، في عام 2004 . أي أن هذه المكافآت تساوت عندهم في عز الازدهار، وفي بؤرة الانهيار. فهم كافؤوا أنفسهم لا على النجاح – أين النجاح في ظل هذه الأزمة؟ – بل على الفشل، وعلى العجز في استقراء مقدمات الأزمة، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى توبيخهم. لكن لماذا لا يمنحون أنفسهم هذه الأموال الهائلة، طالما أن السوق لا تحكمها ضوابط أخلاقية، ولا نقول ضوابط حكومية أو رسمية؟!
هذا الوقت، هو أفضل الأزمنة التي يمكن لواضعي السياسات والمبادئ الاقتصادية، التأسيس على بنية اقتصادية مستندة إلى المعايير الأخلاقية. فكثير من الأزمات تولد معها معاول الحلول، وخرائط النجاة. والأزمة العالمية الراهنة، من أكثر الأزمات احتضانا لهذه الحلول، ليس لأن العالم "اكتشف" أن السوق التي انهارت كانت تعمل بالمعايير التاتشرية، ومعها "الريجانية" (نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان) فحسب، بل لأنها جمعت الأضداد حول حتمية وجود الأخلاق في السوق. يقول الأديب العربي سعد البواردي: "إن الأخلاق تولد مع الضعف، وتضعف أمام القوة وشهية المصالح". وقد أظهرت الأزمة – من ضمن ما أظهرت - أن المصالح مثل الطوفان الذي كلما ازداد هولا، كلما أغرق مزيدا من الضحايا. لا أحد يمكنه المطالبة بإغفال المصالح. ومن العبث المطالبة بضرورة تمكين الدولة – أي دولة - من حركة الاقتصاد. وليس منطقيا العمل على تطبيق النظريات الاقتصادية المعاكسة لنظرية الاقتصاد الحر، لأنها أثبتت فشلا في التطبيق والممارسة. لكن المطلوب حاليا تقديم مصلحة المجتمع – أي مجتمع- على مصالح السوق.
فهل هناك سوق بلا مجتمع؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي