نجاح كبير في مكافحة الفقر .. كيف تحقق؟

إن أزمة الجوع العالمية التي نشهدها اليوم لم يسبق لها مثيل في حدتها، وهي تتطلب اتخاذ تدابير عاجلة. إذ إن ما يقرب من ألف مليون إنسان يعانون من الجوع المزمن ـ بزيادة تقدر بنحو 100 مليون إنسان عما كان عليه عدد الجوعى في العالم منذ عامين فقط. الآن تحمل إسبانيا لواء قيادة جهود مكافحة الجوع من خلال دعوتها زعماء العالم إلى مدريد أخيرا من أجل تجاوز الأقوال إلى الأفعال. وفي ظل زعامة إسبانيا وشراكة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فإن العديد من الحكومات المانحة تقترح جمع مصادرها المالية من أجل تمكين أفقر مزارعي العالم من زراعة المزيد من المحاصيل الغذائية والإفلات من قبضة الفقر.
الحقيقة أن الفوائد المترتبة على تقديم المساعدة من جانب بعض الجهات المانحة قد تكون هائلة. فالمزارعون في إفريقيا وهاييتي وغير ذلك من المناطق الفقيرة يزرعون محاصيلهم حالياً دون الاستعانة بالفوائد التي توفرها أنواع البذور عالية الإنتاجية والمخصبات الزراعية. الأمر الذي يؤدي إلى حصيلة من الحبوب (الذرة على سبيل المثال) تقل الثلث تقريباً عما يمكن إنجازه بالاستعانة بمدخلات زراعية أفضل. إن المزارعين الأفارقة ينتجون نحو طن واحد من الحبوب عن كل هكتار، مقارنة بما يزيد على أربعة أطنان عن كل هكتار في الصين، حيث يستخدم المزارعون المخصبات الزراعية بكثافة.
ويدرك المزارعون الأفارقة أنهم في احتياج إلى المخصبات؛ إلا أنهم لا يستطيعون تحمل تكلفتها ببساطة، ولكن مساعدة الجهات المانحة من شأنها أن تمكنهم من ذلك. وبهذا لن ينجح هؤلاء المزارعون في إطعام أسرهم فحسب، بل سيصبح بوسعهم أيضاً أن يكسبوا دخلاً من السوق وأن يدخروا من أجل المستقبل. ومع تراكم المدخرات على مر بضعة أعوام يكتسب المزارعون في النهاية الجدارة الائتمانية، أو يصبح لديهم من النقود ما يكفي لشراء ما يلزمهم من مدخلات زراعية حيوية دون مساعدة من أحد.
الآن هناك إجماع واسع النطاق على الحاجة إلى زيادة التمويل المقدم من الجهات المانحة لصغار المزارعين (هؤلاء الذين يزرعون هكتارين أو أقل من الأرض، أو الرعاة الفقراء)، وهو ما يشكل أمراً ملحاً في إفريقيا. في العام الماضي تولى الأمين العام للأمم المتحدة قيادة مجموعة بحثية توجيهية انتهت إلى أن الزراعة في إفريقيا تحتاج إلى ما يقرب من ثمانية مليارات دولار سنوياً من أموال الجهات المانحة ـ نحو أربعة أضعاف الإجمالي الحالي ـ مع التأكيد بشدة على البذور والمخصبات وأنظمة الري المحسنة، والإرشاد والتدريب.
يتعين على الجهات المانحة، إضافة إلى المساعدات المباشرة المقدمة لصغار المزارعين، أن تعمل على توفير المزيد من المساعدات لمشاريع البحث والتنمية المطلوبة لابتكار أنواع جديدة من البذور ذات الإنتاجية العالية، وبصورة خاصة لتهجين النباتات القادرة على الصمود في وجه الفيضانات المؤقتة، والنتروجين الزائد عن الحاجة، وملوحة التربة، وآفات المحاصيل، وغير ذلك من التحديات التي تمنع الإنتاج المستدام للمحاصيل الغذائية. إن مساعدة الفقراء بتوفير التقنيات المتاحة اليوم، والاستثمار في الوقت نفسه في التقنيات المحسنة من أجل المستقبل، لما يشكل التقسيم الأمثل للعمل.
الحقيقة أن هذه الاستثمارات تعود بفوائد عظيمة بفضل مراكز الأبحاث، مثل معهد بحوث الأرز الدولي والمركز الدولي لتحسين إنتاج الذرة والقمح، والتي وفرت البذور ذات الإنتاجية العالية والاستراتيجيات الزراعية الخلاقة التي أفضت إلى الثورة الخضراء في آسيا. الحقيقة أن هذه المراكز ليست بين الأسماء المألوفة، ولكنها تستحق ذلك بفضل نجاحاتها العلمية الكبيرة التي ساعدت على تغذية العالم، والتي سنحتاج إلى المزيد منها.
هناك العشرات من البلدان ذات الدخول المنخفضة التي تعاني عجز الإنتاج الزراعي، والتي ربما يتراوح عددها بين 40 إلى 50 دولة، تعمل الآن وفقاً لبرامج تفصيلية عاجلة لزيادة الإنتاج الغذائي بواسطة المزارع الصغيرة، ولكنها في الوقت الراهن تعاني صعوبات جمة بسبب نقص التمويل من الجهات المانحة. التمست هذه البلدان التمويل من البنك الدولي، ولقد بذل البنك جهوداً شجاعة أثناء عام 2008 للمساعدة من خلال برنامجه الجديد للاستجابة لأزمة الغذاء العالمية. ولكن البنك ليس لديه ما يكفي من الأرصدة المالية لتلبية الاحتياجات الملحة لهذه البلدان، وعلى هذا فقد اضطر إلى تقنين المساعدات وقصرها على قسم ضئيل من التدفقات المالية التي يمكن استخدامها على نحو فعّال وجدير بالثقة. ولكن في غضون ذلك يظل مئات الملايين من البشر حبيسين داخل مصيدة الجوع.
أعلنت العديد من البلدان المانحة على نحو فردي عن استعدادها الآن لزيادة دعمها المالي لصغار المزارعين، ولكنها ما زالت تبحث عن الآليات المناسبة لتحقيق ذلك الهدف. الحقيقة أن بنية المساعدات الحالية غير لائقة. ذلك أن الوكالات المانحة الثنائية والتعددية في مجال الزراعة، والتي يتجاوز عددها الـ 20، تعاني من الانقسام الشديد وما زال حجمها غير كافٍ سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي.
ورغم الجهود المخلصة التي يبذلها العديد من المخضرمين في هذا المجال، فإن الاستجابة لأزمة الجوع لا تزال غير كافية على الإطلاق. فقد أتت مواسم الزراعة وذهبت أثناء عام 2008 دون أي مساعدة إضافية تُـذكر لصغار المزارعين الفقراء. وتبحث بلدان إفريقيا في جهد لا ينتهي، ومن دون جدوى في أغلب الأحوال، عن الكميات الصغيرة من الأرصدة المالية اللازمة لشراء المخصبات والبذور المحسنة.
في الوقت الحالي، أعمل أنا وبعض زملائي لصالح لجنة استشارية تابعة للمبادرة الإسبانية، ولقد أوصينا أن تجمع الجهات المانحة أرصدتها المالية في حساب دولي موحد، وهو ما أطلقنا عليه آلية التنسيق المالي. وهذه الأرصدة المالية المجمعة من شأنها أن تمكن المزارعين في البلدان الفقيرة من الحصول على ما يحتاجون إليه بشدة من المخصبات وأنواع البذور المحسنة، ومعدات الري على نطاق صغير.
ستتمكن البلدان الفقيرة بهذا من تلقي التمويل السريع والمنتظم للمدخلات الزراعية من حساب موحد، بدلاً من عشرات الجهات المانحة المتفرقة. ومن خلال جمع الموارد المالية في آلية تنسيق مالية موحدة للجهات المانحة، يصبح في الإمكان تقليص التكاليف الإدارية لبرامج المساعدة، وضمان إتاحة تدفقات المساعدة، وبهذا لن تضطر البلدان الفقيرة إلى التفاوض مع 25 جهة من أجل الحصول على المساعدة.
لقد ولى زمن الركون إلى الأعمال المعتادة، فقد وعدت الجهات المانحة بمضاعفة مساعداتها إلى إفريقيا بحلول عام 2010، ولكنها ما زالت بعيدة عن المسار السليم. والحقيقة أن الجهات المانحة كانت تخفض مساعداتها للبرامج الزراعية طيلة الـ 20 عاماً الماضية، إلا أنها بدأت الآن فقط في عكس ذلك المسار.
ولكن في الوقت نفسه، هناك مليار إنسان يتضورون جوعاً في كل يوم. ونحن في حاجة ماسة إلى إحراز تقدم كبير على نحو ظاهر للعيان وواضح ومقنع، وقادر على تحريك قلوب عامة الناس وعقولهم، والبرهنة على قدرته على إحراز النجاح. إن الفرصة سانحة لصناعة التاريخ في مدريد حيث تلتقي أكثر بلدان العالم ثراءً وأشدها فقراً سعياً إلى التوصل إلى حلول لأزمة الجوع العالمية. وإن أرواح مليار من فقراء العالم باتت الآن مرتبطة بهذا الجهد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي