هل نحن خائفون؟

.. الخوفُ من أهم العناصر التي تقود تصرفاتِ معظم البشر، أفراداً، ومجتمعاتٍ، وأمماً.

والخوفُ أكبرُ عدوٍّ للمنطق والقراراتِ العقلية، لذا كانت الحروبُ، وكانت الكوارثُ البشرية التي صنعها الإنسانُ لنفسِه، ولذا كانت السجونُ، ولذا قامت الدكتاتورياتُ، ولذا عمَّ الظلمُ، وانتشرت الأنانية والفسادُ، ويُهدَمُ ويُخرَقُ النظامُ من دوافع الخوف.
الحروبُ تقوم لأن الدولة تخاف أن تـُشَن عليها الحروبُ، أو يقوم قائدٌ باستخدام الخوف لاحتلال أو غزو دولةٍ أخرى. والجوعُ في أحيانٍ سببه الإنسانُ، فهو يدمر المحاصيلَ خوفا من اليباس والجفاف، وما انتشر الجوعُ في إيرلندا، والمشهور "بمجاعة البطاطا" إلا للخوفِ على الأرض المزروعة، وتغيير المحاصيل هربا من الفقر، فإذا الجوعُ يخترق عظام الإيرلنديين، فيركبون البحرَ خوفاً كأكبر هجرةٍ جماعيةٍ عرفتها أوربا للعالم الجديد. وتشيدُ السجونُ لأننا نخافُ المجرمين، وتقام المعتقلاتُ لأن الحكومات تخاف من المعارضين، وتتعزز الديكتاتوريات لأن الدكتاتور يخاف من الشعب.. وأن ما تراه من عنجهةٍ وفخامةٍ وقوةٍ وعظمةٍ لأصحاب السلطة المتسلطين دافعُهُ الخوفُ لا الجسارة، الخوفُ أن تـُخطـَف منه مظاهرُ القوةِ والترفِ، وكان "صدام حسين" ينام في عشرة قصور، ويتحرك في عشرة مواكب ويغير حرسَه لو حلم في إغفاءةٍ أن حارساً يحاول أن يدسّ له السمَّ أو يخونه.. وكان ستالين كذلك، وهيلاسيلاسي، والآن يعالج الدكتاتور "موجابي" طبيبٌ نفساني من سويسرا، مع أن كليهما ينكر ذلك، وأنا أصدق الخبرَ، من مضاعفاتٍ وعوارض فوبيا خوفٍ تجعله لا يعرف طعمَ النوم.
وبما أنّ الخوفَ ضد العقل والتقدم، كان للعالم الثالث النصيبًُ الأكبرُ من الخوفِ، فهو عالمٌ يخاف الناس فيه من الشرطة، والشرطة تخاف من الجهاز الحزبي الأوحد، والجهازُ يخاف من الذي على رأس الدولة والحزب والشعب والشرطة.. وفي المقابل الكل يخافُ من الذي تحته.. فلا وقتَ لغير الخوف، فتنتشر أفكارُ الخوف، وتـُصرف الأموال على تجنب أسباب الخوف من أسلحةٍ ضد الناس أو ضد الدول.. وتضيع الأموالُ في حمأة محاربة الخوف، وتجفّ المنابعُ التي يجب أن تـُشـَقُ لها القنواتُ لتسيل مياهُ التطورِ والازدهارِ والعافية.
وعندما يعمّ الخوفُ كما أسلفنا فإن الحكمة تضيع، وقد تسقط أنظمةٌ، ودولٌ بدافع المبالغة في الخوف، ويحفظ التاريخُ أمثلة السقوطِ خوفا منذ تداعي الأمة الأولى التي تطورت في تاريخ البشرية إلى الذُرى، الإمبراطورية الرومانية، ولو أنك قرأت مجلدات سقوط الإمبراطورية الرومانية لرأيت الخوفَ ينبعث من كل سطر.. ثم دار الخوفُ بمعولِ هدمِهِ في القرون ليهدم ركائزَ الأمم.
والأمةُ الأمريكية قامت على مفهومٍ جديدٍ، وهو محاربة أي شيء يخيف الإنسانَ، حتى أنها اعتبرت الدينَ من أسبابِ التخويف والخوف، فنظمّت أول دولة علمانيةٍ وظهر مصطلحُ وعاء الذوبان Milting Pot أي ذوبان الأعراق والأديان في صفةٍ واحدةٍ هي الصفةُ الأمريكية، كأوّل وأرسخ شعار يدل على أمريكا الحرية، والحرية أول ما تعني في أي قاموسٍ إنساني هو: التحرر من الخوف. ولما عاد الخوفُ لأمريكا بدأت بالنكوص، وهذا ما يقوله الرجلُ المفكرُ السياسي "آل جور" في كتابهِ The Assault on reason "الانقضاضُ على الرشد"، كما أترجمه من روح هدفِ الكتاب، فهو يقول إن إدارة بوش حكمها الخوفُ، وحكمَتْ أمريكا بالخوفِ، والخوفُ والتخويفُ من الإرهاب هو الذي اُستـُغِلّ كي يتم التحكم بالإجراء السياسي والإداري، وستأتي كل تبعاتها قريبا بالنكوص لهذه الأمة. وقد صدق الرجلُ، وكتابه من أجمل وأعمق ما قرأتُ في مسألةِ تعامل الخوف مع النُهى وإِعْمال السببيّة.
لذا أتفهَّمُ، مثلاً، موقفَ المقاومةِ الفلسطينية، وأفهمُ موقفَ إسرائيل، فالمقاومةُ أداة للخوفِ تجعل إسرائيلَ لا تستقر، ومن لا يستقر فهو لا ينتظم بالحكم العقلي، وقد تتدهور إسرائيلُ بدافع هذا الخوف، فالفيلسوفُ المتدين توماس أكوينيوس (وشاع لقبه المُعرَّب بين الآباء اليسوعيين كتوماس الإقيوني)، والذي أحدثت فلسفته نهوضاً في الفكر الأوربي الديني والعلماني معاً، يقول: "من علائم الخذولِ العقلي للفردِ أو المجتمع أو الأمة استخدام القوة التأديبية (أو الانتقامية) أضعاف ما يستحق الفعلُ الباعثُ.. وهذا ما فعلته إسرائيل بالضبط، فهل سيخذلها الخوفُ في النهاية؟
وهو درسٌ مهمٌ لهذهِ الأمةِ أن تتطلع لهذه النظرية: كلما قلـَّتْ عواملُ الخوفِ والتخويف، زادت عواملُ التقدم.
.. فهل نحنُ خائفون؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي