ثقافة إحراق الكتب والمكتبات (1-2)
ليست ثقافة إحراق الكتب والمكتبات ظاهرة جديدة في هذا العالم, بل هي قديمة قدم التاريخ نفسه, فتعرض أي كتاب للحرق ليس سوى قتل معنوي لمؤلفه, وبالتالي عندما يعمد شخص ما إلى حرق مؤلفاته فهذا يعني أنه يقوم بعملية انتحار, أما عندما يعمد إلى حرق مكتبته التي تضم مؤلفاته ومؤلفات غيره فهذا مشابه إلى حد كبير لقيام أحدهم بتفجير نفسه في تجمع مدني!
اقول هذا بعد أن اطلعت على مجموعة الأخبار التي أشارت إلى إحراق الملحن (سراج عمر) لمكتبته المعروفة كحالة من التعبير عن رفضه للتهميش الذي يعيشه وكأنه يقول (بيدي لا بيد عمرو), لكن السؤال الذي ظل عالقاً هو: هل (التهميش) كافٍ لأن يحرق ملحن (بلادي منار الهدى) تلك الثروة الفنية والفكرية أم أن هناك أسباباً أخرى؟!
أشار بعض من علقوا على الحادثة أن (الالتزام الديني) من الأسباب التي تقف خلف قيام "سراج عمر" بهذا العمل وهو الأمر الذي استدعى خروجه مرة أخرى في وسائل الإعلام نافياً مثل هذا التفسير ومؤكداً أنه ليس عاصياً كما يحاول أن يصوره أصحاب مثل هذا الطرح.
ولا أخفيكم أنني أتفهم جيداً حالة اليأس التي وصل إليها هذا المبدع مما قاده إلى الانتحار معنوياً والتاريخ مليء بالتجارب المشابهة والأشد مرارة, فهو يذكر لنا أن أبا حيان التوحيدي قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها، وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته. وكتب إليه القاضي أبو سهل يعذله على صنيعه، ويعاتبه, فرد أبو حيان يعتذر من ذلك بقوله: (حرسك الله أيها الشيخ من سوء ظني بمودتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعاً مما سود وجه عهد إن رعيناه كنا مستأنسين به، وإن أهملناه كنا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلها فداك. وافاني كتابك غير محتسب ولا متوقع على ظمأ برح بي إليه، وشكرت الله تعالى على النعمة به علي، وسألته المزيد من أمثاله، الذي وصفت فيه بعد ذكر الشوق إلي، والصبابة نحوي ما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الذي نمى إليك فيما كان مني من إحراق كتبي النفيسة بالنار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنك لم تقرأ قوله جل وعز: (كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون)، وكأنك لم تأبه لقوله تعالى: (كل من عليها فان). وكأنك لم تعلم أنه لا ثبات لشيء من الدنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلباً بيد الليل والنهار، معروضاً على أحداث الدهر وتعاود الأيام، ثم إني أقول: إن كان - أيدك الله - قد نقب خفك ما سمعت، فقد أدمى أظلي ما فعلت) ويستمر أبو حيان في تبرير تصرفه بقوله: (لي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط: حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري: مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً. وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار).