سجينات حتى الموت!

يردد أشقاؤنا المصريون عندما يودون مؤازرة أحد معارفهم من المساجين عبارة "السجن للجدعان".. هذا وهم يعلمون جيداً أن لا "جدعان" على وجه هذا الكوكب يتمنون قضاء ليلة واحدة خلف القضبان, ومع ذلك يبقى للعبارة السابقة مفعولها المعنوي الجيد على السجين, لكنها تفقد جدواها في حال كان المخاطب "سجينة" لاعتبارات ثقافية واجتماعية متوارثة ومنتشرة في جميع أنحاء العالم العربي تنظر للسجينة كـ "شيطان" لا يستحق حتى المؤازة المعنوية.
وفي السعودية يتسابق أقارب ومعارف أي سجين أو متهم مهدد بالسجن لفعل أي شيء يمكنهم مساعدته من خلاله لإخراجه من ورطته, وقد يتنادون لطلب المساعدة من جميع معارفهم وغير معارفهم أيضاً دون خجل أو تردد مهما كانت نوعية الجرم الذي ارتكبه السجين, كما قد يتم جمع ملايين الريالات خلال ساعات معدودة إن كانت قضية صاحبهم تستلزم ذلك مقابل تنازل خصمه, لكن جميع هؤلاء يفضلون الصمت والتلثم بـ (غترهم) إن كان الشخص القابع خلف القضبان "سجينة" لا سجين!
يعود هذا إلى ثقافة "العار" التي لا يمكن للعربي تجاوزها أو غفرانها, فالسجن في حالة السجينة "عار كبير" بينما هو في حالة السجين مجرد "ورطة"!
وأذكر أنني قرأت تصريحاً نُشر قبل سنوات في صحيفة "الشرق الأوسط" لمدير عام السجون أوضح من خلاله أن 95 في المائة تقريباً من السجينات في السجون السعودية لسن سعوديات, لكن ماذا عن الـ 5 في المائة من السجينات، وكيف ستسير حياتهن بعد أن يخرجن إلى النور؟
أعلم كما تعلمون وكما تشير الأخبار الصحافية بين فترة وأخرى أن كثيرا من أقارب وأهالي السجينات السعوديات يرفضون رفضاً قاطعاً تسلمهن من السجن بعد انقضاء مدة العقوبة, وفي الغالب تتم إحالة السجينة التي رفض أهلها تسلمهن إلى دور الإيواء أو الرعاية الاجتماعية لتقضي بقية حياتها تدفع ثمن غلطة حوكمت عليها وأنهت عقوبتها بسلام, لكن لا شيء يمكنه أن يشعرها بأنها ليست سجينة حتى الموت, فإن كان أقرب الناس لم يستطيعوا أن يغفروا لها، فكيف هي الحال مع مجتمع كامل ينطلق من الذهنية الثقافية ذاتها؟!
لا يوجد في هذا العالم إنسان لم يخطئ, لكن في هذا العالم كثير ممن لا يمتلكون الشجاعة التي تمكنهم من الغفران, وفي حال "السجينات" اللاتي قدر لهن أن ينبذن اجتماعياً لا بد من التعامل مع وضعهن بشكل يكفل لهن تجاوز مأساتهن .. إننا بحاجة إلى جمعيات ومؤسسات خيرية واجتماعية متخصصة في الأخذ بيد العائدة من تجربة السجن ومساعدتها على العودة للحياة .. والعمل على تحويلها إلى عنصر فاعل في المجتمع, فلا يكفي أن نوفر لها السكن إن رفضها أهلها ليتحول هذا السكن إلى سجن معنوي, أشد مرارة من السجن الذي فارقته.
يجب أن تحظى العائدة من السجن بحياة كريمة مثل غيرها من نساء هذا الوطن, فمساعدتها على الحصول على فرص العمل والسكن وتكوين الأسرة أمر بالغ الأهمية, وهذا ما يوجب العمل على تأسيس جمعية أو مؤسسة خيرية "مدنية" مختصة بشؤون العائدات من السجن فقط, ليتسى لها ممارسة دورها بالشكل المطلوب بعيداً عن التشتت بمتابعة الحالات الأخرى.
إنني أتمنى من كل قلبي أن تجد هذه الفكرة صدى لدى كثير من الوطنيين الناشطين اجتماعياً, فنحن أمام مأساة إنسانية يجدر بنا أن نوليها كثيرا من الاهتمام الذي تستحقه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي