كلمة الملك في الكويت .. ما قل ودل
قليلة هي الكلمات التي تحرك الإنسان للفعل. وأقل منها تلك التي تعينه على الاسترجاع والتوقف عن الخطأ. وحين تأتي الكلمات من القلب فإنها ـ كما قيل ـ تدخل مباشرة إلى قلب المتلقي، خاصة حين تخلو من المبالغات، والمراوغات، ومحاولات الكسب. حين تكون الكلمة صادقة وعقلانية فلا يملك الإنسان إلا الاستجابة العفوية.
تناولت الصحف العربية والعالمية أصداء الكلمة التي ألقاها الملك عبد الله في مؤتمر القمة العربية في الكويت الإثنين الماضي، وناقش عديد من الكتاب أبعاد هذه الكلمة وتأثيراتها، خاصة حين قادت لتحرك عربي فعلي، أدى للم الشمل، والمصالحة العربية ـ العربية.
جاءت الكلمة مختصرة جداً، وكأنها همسة أخوية لا تتجاوز دقيقتين، فلم يكن الأمر يحتمل الإسهاب والإطناب. كان الداء بادياً والدواء واضحاً. قالها الملك كما شاهدها، ولم ينمق الموقف ويخرجه عن حالته الطبيعية. نعم العرب اليوم مختلفون على أمور سياسية، وهذه الخلافات أدت إلى ضعف الموقف العربي العام، وحين تضعف في نفسك، ويضعف إخوانك، فلا تلومن أعداءك إذا تكالبوا عليكم.
لقد قرنت الكلمة بين أحداث غزة وبين التشرذم العربي، لتصل إلى نتيجة واحدة، وهي أن غزة ما هي إلا مثال لما قد يحصل ــ ويحصل كثيراً ــ ولكن بأساليب أخرى، إذا تزعزعت وحدة الصف، وتخلخل الموقف الثابت. حين نختلف على الثوابت، تكون نهايتنا. وهذه الثوابت التاريخية والسياسية هي الكفيلة بحماية مصالحنا كجماعة. من هنا جاءت المناشدة لتجاوز الخلافات والشكوك غير المبررة، والعودة لوحدة الصف، وعدم إعطاء العدو مبررات لتنفيذ خطط إقليمية تعتمد في نجاحها على انقسامنا، وتشاحننا.
لعل أجمل ما في الكلمة ــ في رأيي ــ هو قصرها الشديد، وهذا ما أضفى عليها قوة مضاعفة، وصراحة مطلقة. رسائل مهمة للأمة العربية صاغها الملك في 413 كلمة. البعض يستغرق مثل ذلك في مقدمة للكلمة، أو استطراد عنها، ولكن حين يكون الوضع حرجاً فإنه لا يستحمل ركوب أمواج البلاغة من إطناب، وجناس، ومحسنات لفظية ومعنوية. حينها يهرب المرء من البلاغة ليقع في عينها، فالبلاغة الحقيقية، كما يقول الأعراب، هي الإيجاز. حين يكون الأمر متعلقاً بمستقبل الأمة وتشخيص آلامها، فلا مكان للإطناب والتنميق. يجب أن يأتي التشخيص دقيقاً، مختزلاً، وافياً، كافيا.
في 413 كلمة قالت المملكة رأيها، فاستجاب زعماء العرب مشكورين للدعوة، وتهافتوا على إنفاذها، فهم أهل للنصح، وفيهم البر، وإن لم يكن سعيك لمصلحة إخوتك، فلمن؟
في 413 كلمة، أظهرت المملكة الداء، ودلت على الدواء. والمتمعن في الكلمة يجد أنها في شرحها للاثنين تجنبت أي حديث شخصي، أو منجزات ذاتية، أو محاولة الاستفادة من الوضع الراهن. ولأن الزعماء العرب أدركوا ذلك، كانت استجابتهم سريعة وعفوية، بل حتى تبرع المملكة التاريخي بمبلغ مليار دولار لإعادة إعمار غزة، جاء خالياً من نبرة الترفع أو الامتنان، فهو قد ورد في الفقرة الأخيرة من الكلمة، بعد مقدمة لطيفة تبين أن هذا التبرع جاء من أشقاء، ولا حساب بين الإخوة، وختم بكلمة رائعة حين شدد على أن هذا المبلغ مهما كبر، فهو لا يوازي قطرة من دم فلسطيني، وفي هذا أيضاً إيجاز رائع لحفظ الكرامة العربية التي قد يشوبها الكدر من جمع التبرعات، وكأن المتبرع يعتذر من المتبرع له، وهذه لفتة غاية في الخفة واللطافة البلاغية.
413 كلمة قالت وحققت ما عجزت عنه مجموعة من القمم العربية، وآلاف من الكلمات المنمقة المصفوفة، لأنها باختصار قالت الحقيقة.