موت هولوكوست وولادة آخر
لطالما اقتات الشعب اليهودي على صور الهولوكوست، واستدر بها عواطف شعوب العالم، وخصوصا العالم الغربي، واستمر في تحميل الشعوب الأوروبية وخاصة الشعب الألماني الإحساس بالذنب حيال ما اقترفوه تجاههم. وعاش متقمصا صورة الشعب المضطهد في أرجاء الأرض، واستغلت المؤسسات الإعلامية اليهودية هذه الانطباعية العالمية لكسب المزيد من التأييد، فجيشوا الكتاب والسينمائيين والمعارض لتكريس هذا المفهوم، فقلما تجد عاصمة غربية لا يوجد بها متحف أو معرض مخصص للهولوكوست يمتلئ بصور العوائل اليهودية المشردة في ألمانيا وغيرها، ونجحوا في ذلك أيما نجاح.
ليس ذلك فحسب بل نجحوا في استصدار قوانين معاداة السامية، والتي عدّت التشكيك في المحرقة أو عدد ضحاياها جريمة تستحق المحاكمة، كما حدث مع المفكر الفرنسي روجيه جارودي في مصادرة صريحة لحرية التعبير في معقل الفكر الليبرالي الحر.
لقد ظلت المحرقة اليهودية ولعقود طويلة الوقود الذي يعمل به الشعب اليهودي وتمثل قمة التأييد في إنشاء دولة إسرائيل الدينية على أرض فلسطين.
لقد تمكنت إسرائيل بفضل ذلك من كسب تعاطف الغرب ومساعدته لهم حتى تمكنوا من بناء دولة تعد وبحق من أفضل الدول الديمقراطية فيما يتعلق ببنائها السياسي والمؤسساتي الداخلي، ومن أقوى دول العالم عسكرياً، إلا أن سيطرة العسكريين على الحكومة وتمكنهم من تمرير القرارات الحربية، فيما يتعلق بتعاملهم مع الشعب الفلسطيني، أدى في نظري إلى تدمير تلك الصورة، وأصبحت شعوب العالم، وكما تظهر الإحصائيات، أقل تعاطفاً مع دولة إسرائيل، وهو ما يعني تاريخياًً بدء معاناة جديدة لهذا الشعب إن أحسن العرب استغلالها.
لقد غفل القادة الإسرائيليون عن قدرة الإعلام العربي الحديث من التأثير في شعوب الأرض مستخدما نفس الأسلوب الذي طالما تفرد به الإعلام المسيطر عليه يهوديا، أو المغيب ذهنيا بفعل سحر تأثير الهولوكوست. لقد نجح الإعلام العربي بكافة تياراته وحتى الآن من تصوير حجم الدمار والجرائم التي يرتكبها قادة إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني، رغم أن هناك أصوات لعقلاء إسرائيليين يدركون أن موت الهولوكوست يعني انكشاف دولة إسرائيل، وانحسار التعاطف العالمي عنها فشاركوا في المظاهرات المنددة بأفعال قادتهم وخاصة جرائمهم ضد المدنيين والجرحى والأسرى.
إن الانتصار الحقيقي للشعب الفلسطيني ومن قبله اللبناني هو في قدرتهم على تغيير الصورة وقلب طاولة الهولوكوست اليهودي وجعله من التاريخ وولادة الهولوكوست الفلسطيني، لذا فإني أعتقد أن الحرب على إسرائيل بالأسلحة الحربية لن يكون ناجعاً بمقدار استغلال صور المذابح اليهودية وبناء المتاحف والمعارض وإنتاج الأفلام السينمائية التي توضح معاناة شعب فلسطين، ولك أن تتخيل التأثير الذي سيحدثه متحفا لمجازر قادة إسرائيل العسكريين ضد الشعب الفلسطيني في القاهرة أو الأردن التي يزورها ملايين السياح سنوياً، مثل هذه النشاطات وغيرها ستضمن للمولود الحديث أو الهولوكوست الفلسطيني الرعاية، وستجعل الشعب اليهودي يعاني كما عانى الشعب الألماني في تحميله مسؤولية جرائمه ضد الشعب الفلسطيني صاحب الحق في الأرض، وأن لا تنسى معاناة الشعب اللبناني في 2006 أو الفلسطيني في 2008، كما نسيت قانا أو دير ياسين، على أن يكون العمل مؤسساتيا تسهم فيه جامعة الدول العربية، رغم يقيني أن محاولة أية دولة عربية سياحية إنشاء مثل هذه المتاحف ستواجه بزيارات مكوكية إسرائيلية لإيقاف مثل هذا المشروع.
إن على مهندسي التقنية وخبراء النشر والإخراج على الإنترنت، وخصوصاً الفلسطينيين، معنيون أكثر من غيرهم المسؤولية استحداث مواقع إلكترونية واستغلال مواقع النشر المجاني كالمدونات واليوتيوب لتوضيح معاناة الشعب الفلسطيني .
وختاما فإن حقوق الشعب الفلسطيني لن تعود بالسلاح الحربي، وإنما بالسلاح الإعلامي والمؤسسات المدنية القانونية التي تستطيع قراءة العقل الغربي والتأثير فيه، وذلك بمساهمة تلك المؤسسات أياً كان توجهها في مخاطبة عقلاء الشعوب لأنه في الدول الديمقراطية لا صوت يعلو فوق صوت الحق.