بين سليمان المنديل وروبرت فيسك .. للإفلاس ألف وجه!
الكلمة، مهما كانت بليغة، يصعب أن تصف المشهد الغزي الذي يدخل أسبوعه الرابع ... الصورة أخذت في هذا العالم الجديد مكان الكلمة، فانفجرت الأشلاء والدماء والأرواح التي تحتضر في مشهد مؤثر أمام عدسة الكاميرا "هل شاهدتم الجنود الفلسطينيين وقد تناثرت جثثهم بالعشرات ورجال الكاميرا يلقنونهم الشهادة؟".
استمر القصف المعربد لآلة الموت الجهنمية التي صممت لكي تخوض حروبا عسكرية، فإذا بالأباتشي والإف – 16 وكل مستودع الموت وأدواته الجهنمية توجه إلى أجساد المدنيين والرضع دون رحمة أو شفقة أو حتى وخزة ضمير .. آه من هذا الضمير الإنساني والعالمي الذي حاضروا حوله علينا كثيرا، وصموا أسماعنا به في كل مناسبة، وأمطرونا ليلا ونهارا مشاريع ملغومة ومعلبة ومصبوبة على مقاسهم حول حقوق الإنسان، والأقليات، والعمالة المهاجرة، والشاذين والشاذات، بل حتى كلاب "السلق" وحيتان القرش في قيعان البحار....!
منذ سقوط غرناطة 1492 وحتى اليوم ظل الغرب في مقعد القيادة، واستطاع لخمسة قرون أن يبسط سيطرته السياسية والعسكرية والاقتصادية ليكون الطرف الأكثر حضوراً في ذاكرة التاريخ الحديث، ومع هذا الصعود ظلّ يتخفى وراء قيم ومبادئ كانت دائماً هي الأصل ما دامت هذه المبادئ هي مبادئ المنتصر وقيم الغالب الذي يستعمر العالم تارة، أو يجري فيه الدماء أنهارا في حروب عالمية، أو معارك تنهي سلالات بشرية بالكامل! الغرب في تحيزه الأخلاقي والمعرفي يرى منذ ذلك التاريخ أنه الكامل وأنه المعيار في القضية الأخلاقية والثقافية، التي أخذت في البداية التبشير بالمسيحية معياراً للعالم المستعمر حديثاً، ثم بعد الانقلاب على الكنيسة حلت العلمانية الغربية "التي لم تتخل عن المعتقد الكنسي تماماً" كمعيار جديد، وفي الحالتين استمر الغرب يمارس دور الواعظ للآخرين الذين لا ثقافة لديهم ولا مثل أو مبادئ جديرة بالاهتمام فضلاً عن الاحترام.
اليوم رأينا الغرب يفلس أخلاقيا من خلال الأزمة المالية الخانقة التي أنتجوها في أسواقهم ثم صدروها إلى العالم كله ليدفع الجميع فاتورة الطمع والخيانة والتآمر الذي كان يجري في "وول ستريت" تحت سمع وبصر وحس القانون الأمريكي، الذي علمونا أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتحت رقابة المؤسسة الأمريكية التي طالما وثق العالم بها وصوت لها من خلال إيداعه في السوق الأمريكية للحصة الأكبر من الاستثمارات الأجنبية في العالم ... إن الأزمة المالية الخانقة هي أزمة قيم قبل أن تكون أزمة اقتصادية، وهي تكشف بكل وضوح أن الغرب ومُثله ونماذجه أصبحت مكشوفة تماماً ولم تعد تجدي الفوقية والتعالي اليوم، حين تستجدي القوى الغربية بقية القوى الصاعدة لحل الأزمة بعد أن كانت القرارات الكبرى مقصورة على القوى الغربية الكبرى الثماني في العالم.
لقد كفَّر كثير ممن رأى في هذا الغرب النموذج بقيمه وأخلاقياته وغروره والذي هو في نظري أعتى سلاح ناعم، أو أمضى آلة جهنمية في الترسانة الغربية، الذي هو الثقة والإيمان بهذه المبادئ المنافقة!.
اقرأوا إن شئتم ما سطره الأستاذ سليمان المنديل في صحيفة الوطن حين قال: "بعض منّا درس في الغرب، وأنا منهم. وقد درسنا عدداً من النظريات، والمفاهيم الاقتصادية، والمالية، التي أصبحت مقدسة لدينا، وأهمها العناوين التالية:
- إن عوامل السوق من عرض وطلب، كفيلة بتنظيم السوق، والاقتصاد بشكل جيد!.
- ضرورة ترك القطاع الخاص ينظم نفسه بنفسه، دون أي تدخل حكومي!.
- إن نظام المعونات، والضمان الاجتماعي، هو تشويه للاقتصاد الحر!.
- إن الشركات قد تفلس، ولكن الحكومات لا تفلس!.
- إن آليات المراقبة، والضبط، الممثلة بالجهات المنتخبة، مثل مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، والبرلمانات، كفيلة بضبط الجشع البشري لدى القطاع الخاص!.
- إن صندوق النقد الدولي، كفيل بمساعدة، وتصحيح أي اقتصاد يمر بأزمة!.
- إن البنوك المركزية قد أجادت عملها في مراقبة القطاع المصرفي!.
- إن هيئات التصنيف الائتماني محايدة، وتعمل بمهنية عالية!.
- إن دول أوبك هي سبب مشكلات العالم الاقتصادية، في حين أن تلك الدول كانت، وما زالت تطالب بتحصيل سعر عادل، لبضاعتها الناضبة، وغير المتجددة!!.
- إن النظام الاشتراكي كله شر!! والنظام الرأسمالي كله خير، واليوم نعرف أنه نتيجة وجود نظامين متنافسين في الماضي، فقد خلق ذلك ضغطاً، وانضباطاً، ولم يبدأ الفلتان الرأسمالي إلا بعد زوال النظام الاشتراكي!!
- أعترف اليوم بأنني خدعت، وفقدت الثقة، بكل ذلك الإرث الزائف، وبتلك الأفكار الخاطئة، بل إنني كفرت بها، وبدأ كفري عندما تعرفت على مكونات الأزمة المالية العالمية، وفشل زعماء العالم السياسيين، والاقتصاديين في إيجاد حلول، ولكن كفري البواح اكتمل، عندما قرأت عن فضيحة "ميدوف" الذي استطاع استباحة أموال، بلغ مجموعها 50 مليار دولار، وكل ذلك حدث تحت مرأى، ومسمع الرقيب المالي!.
هل هناك مؤامرة في الموضوع؟ .. شخصياً لم أكن أحب نظرية المؤامرة، ولكنني اليوم جاهز للاستماع إلى الحجج المؤيدة لها، لأنني فقدت الثقة بكل النظريات، والمسلمات الاقتصادية السابقة".
لقد تزامن حدثان تاريخيان في أقل من ثلاثة أشهر: الأزمة المالية العالمية، والأزمة الإنسانية في غزة، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، هي الأزمة الأخلاقية الطاحنة التي يعانيها الغرب، وهي عملة كانت ذات قيمة يوماً، ... واليوم هي عملة رديئة تبث الكراهية، وتولد الغضب، وتبذر كل يوم أجيالاً تفقد ثقتها وإعجابها بهذا الغرب الذي يتنفس النفاق ويمارس الخديعة، ثم يسأل ببلاهة أحياناً وبخبث في معظم الأحيان: لماذا يكرهوننا ..؟! روبرت فيسك حاول أن يجيب عن هذا التساؤل السمج قائلاً "مرة أخرى تفتح إسرائيل أبوابها الجهنمية على الفلسطينيين، 40 قتيلاً في مدرسة للأمم المتحدة وثلاثة آخرون في مكان مجاور.. حصيلة ليست سيئة لجيش يؤمن بالسلاح و"السلاح النقي" فقط، ولماذا نستغرب حصيلة كهذه.! هل نسينا 17.500 قتيلا في غزو إسرائيل للبنان عام 1982م، أو 1700 قتيلا بدم بارد في صبرا وشاتيلا" وبعد أن يعدد فيسك مجازر إسرائيل القريبة ولا سيما منذ انطلاق مبادرات السلام المزعوم!! ينتقد فيسك الزعماء الغربيين والنخب الحاكمة والإعلامية على شراكتها في الجرم، حين تؤمن هذه الزعامات بأن الدولة العبرية تحرص على سلامة المدنيين!! ليس اليوم يجيب فيسك!! بالتأكيد المشاهد خير من ألف دعوى أو تلفيق، إن المجزرة البشعة يشترك فيها حسب رأيه كل الزعماء الغربيين المنافقين والكاذبين، وليست إسرائيل وحدها، ويضيف "ما حدث ليس مخزيا فحسب بل إنه العار بعينه، هل وصف ما جرى جريمة حرب كاف؟! لكم أن تتخيلوا لو أن حماس قتلت 40 مدنينا يهوديا! إن هذه المجازر تتم باسمنا نحن الغربيين حين تدعي الآلة العسكرية الإسرائيلية أنها تخوض الحرب دفاعاً عن قيمنا الغربية، عن أمننا، وعن سلامتنا، وهكذا شئنا أم أبينا نحن شركاء في هذه المجزرة!"، ويختم قائلاً "بعد كل هذه الصور الكالحة سينفجر الغضب العربي، وسيكون غضباً أعمى، وسنقول كالمعادة: ليس لنا علاقة بتفجر هذا الغضب، وسنردد مرة أخرى لماذا يكرهوننا! لكننا يجب ألا ندعي أننا لا نعرف الجواب!!".
الإفلاس قاس مالياً لكنه دون شك أقسى حين يكون أخلاقياً، تماما مثل حال الواعظ الذي يحاضر دوماً عن الفضيلة ويكتشف الناس أنه يرتع من كأس الكبائر ويداه ملطختان بكل إثم!!.
سليمان المنديل كشف عن الإفلاس الاقتصادي، وفيسك كشف عن الإفلاس السياسي.
للإفلاس ألف وجه وها نحن نبصر بعض تلك الوجوه السوداء.