الحرب والإنسان والأخلاق
في خريف عام 1993 م كنت في زيارة للعاصمة الكندية مدينة (أوتاوا)، وفي رحلة التعرف على البرلمان الكندي والكومنولث البريطاني والمكتبة الرائعة التابعة للكومنولث، التي تحوي 600 ألف كتاب من ذخائر المعرفة الإنسانية، ثم المجلس الذي تدار فيه مناقشات الأحزاب، وحيث يهيأ وفي مكان مرتفع منه للراغبين من الجمهور حضور هذه المناقشات الساخنة.
وفي نهاية الرحلة وقفت السيدة التي كانت تقوم بدور المرشد السياحي أمام لوحة تذكارية لتقولَ بخشوع: هذه اللوحة هي ذكرى للخسائر التي مُنيت بها كندا في الحرب العالمية الأولى، حيث اشتركت الوحدات الكندية في ساحات القتال الأوربية، مع مجموعات دول الكومنولث من استراليا والهند ونيوزيلندا وبالطبع بريطانيا، حيث سيق 600 ألف جندي كندي يمثلون زهرة شباب المجتمع الكندي و( عُشر ) ( 1 \10 ) مجموع الأمة الكندية في ذلك الوقت، وقتل منهم أيضاً العُشر ( قُتل 60 ألفاً)؟!.
وقفت أتأمل اللوحة التذكارية والشعر الحزين المسطَّر عليها، تساعدني ابنتي التي تدرس في جامعة (مك جيل Mc Gil) على فك معاني بعض الكلمات، ذلك أن الأسطر كتبت بلغةٍ فخمةٍ: عندما ترسل الشمس أشعتها الدافئة، وتمتلئ حقول الربيع بورود الزنبق والياسمين، وتشعرُ بالسلام يظلل الوطن الذي تعيش فيه، فلا تنس البؤساء في حشرجة الموت، تنزف جراحاتهم في ساحات القتال.
وتمنيت أن تُختم الأبياتُ بالاستفادة من هذا الدرس المريع كي لا يتكرر الخطأ، بكل أسف خُتمت الأبيات بــ (ثقافة البطولة) مرةً أخرى: لا تنس دماء القتلى وآهات الجرحى وعذاب المشوهين من أجل الثأر لهم والانتقام لتضحيتهم!!
ولم يختموها: كفى بالحرب واعظاً !!
قلت لمرشدتنا الكندية: إنني متألم جداً لما ذكرتَ، وأرجو ألا تتكرر هذه المأساة بتقديم مزيد من القرابين البشرية على مذبح الحروب البئيسة، فهزت رأسها متأثرةً بالإيجاب.
هذا هو عالم الكبار اليوم فما حال عالم الصغار ؟؟
إن الصغار إذا لجأوا إلى القوة في حل مشكلاتهم فإنهم يكونون قد باعوا قضيتهم للمترفين في الأرض، لسماسرة الحروب، والأخيرون ينظرون فمن يكون انتصاره في مصلحتهم نصروه، وإلا فإنهم يتركونهم ينحر بعضهم بعضاً، أو يمدونهم بالأسلحة التقليدية بتغافلٍ وشماتة، وهذا الوضع العالمي بين الصغار والكبار وضع جديد، علينا أن نتفهمه ونتكيف معه من دون تبلد.
وعلينا أن ننسخ الثقافة المبنية على العهد العتيق، عهد اعتبار العنف (بطولة)، ولنبدأ التكيف مع العهد الجديد في الأرض الجديدة، عهد السلام ولنبدأ بصنع ثقافة جديدة خارج الحرب والضرب؟
ذلك أن صنع ثقافة من هذا النوع شرط لقيام العيش المشترك معا ً بسلام.
وهذه الثقافة ـ التي ينبغي أن نصنعها ـ هي التي ستبدل الذهنية الجماعية التقليدية التي تنظر إلى العنف أنه بطولة وقداسة، بدلاً من النظر إليه أنه أمر يدعو إلى الغثيان، وأنه كفَّ عن كونه بطولة بل تحول إلى جريمة، وما لم نحقق هذه النقلة الثقافية والقطيعة المعرفية فلن نكون قد صنعنا شيئاً.
فكما كانت الجراثيم القاتلة قبل كشفها ومعرفة كيفية التعقيم، كانت مبثوثة في أعيننا، وكانت تداهمنا من غير أن نعرف كيف تأتي وتحصد الناس، كذلك فإن الجراثيم الفكرية الثقافية المبثوثة في أغذيتنا الفكرية تأتي وتحصدنا ثم نعيش حيارى مفلسين.
إنه لم يبق في العالم إلا مذهبان، من يؤمن بالعنف، ومن يرفضه ويتحداه بعد الإيمان بالقتل حلا للمشاكل؟
وما هو أمام العرب اليوم أن يتمرنوا على حل مشاكلهم فيما بينهم سلمياً، فإن نجحوا في ذلك فستحل المشكلات بينهم وبين غيرهم تلقائياً، ويظن كثير من الناس أن حل المشكلات عند السياسيين، والواقع أن السياسي هو حفيد المثقف، فهم ثمار الشجرة التي غرسوها.
ويخطئ العرب كثيرا حين يظنون أن الانتصار على إسرائيل سوف ينهي صراعاتهم الداخلية، فلو خسف الله الأرض ببني صهيون، لتقاتلت فتح وحماس بكل حماس.. والمنظر الذي رأيته في الحائط الجزائري أذهلني عند حدود المغرب الشرقية، فلا يستطيع عبوره طير ويعسوب ونحلة ونملة، وهما ليسا إسرائيل والعرب بل بلدان عربيان مسلمان وبنفس المذهب المالكي، ومنه يجب استيعاب أن أزمتنا الرئيسية هي داخلية وأنها في أعماقها ثقافية، وأن أحد تجلياتها سياسي، وأن وجود سرطان إسرائيل بيننا هو بسبب ضعف الجهاز المناعي، وقد يكون هجوم إسرائيل المتواصل مثل أي مرض عات من جانب خير ليقظة العرب الذين يشخرون في ليل التاريخ؟؟
إن التاريخ يعلمنا أن سقراط تحدى العنف وقبل الموت، واعتبر العنف عاراً، والموت ليس عاراً، وأن من العار أن نرتكب العنف الذي هو العار، خوفاً مما ليس بعار وهو الموت، وعندما تجرع السم بكت زوجته وقالت: إن ما يحزنني أنك تموت وأنت بريء، فقال لها: ويحك وهل كان يرضيك أن أموت وأنا مدان؟!