ما السبيل إلى الانتقال بمجتمعنا من نمط الاستهلاك إلى الإنتاج؟
ساعدت كل من الطفرة النفطية الأولى التي مرت بها المملكة في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي والأخيرة خلال السنوات الخمس الماضية على تحقيق معدلات نمو عالية في مختلف القطاعات الاقتصادية. وخلال تلك الحقبتين أدى الارتفاع الحاد في أسعار النفط التي تضاعفت بمعدل أربع إلى خمس مرات عن مستوياتها قبل الطفرة إلى تحقيق فوائض كبيرة وتوفر معدلات عالية من السيولة رافقها زيادة في النشاط الإقراضي. وساعدت معدلات السيولة العالية المتاحة في الوقت نفسه على خلق وترسيخ ثقافة وسلوكيات استهلاكية، تحولت مع الوقت إلى نسق قيمي يوجه سلوكيات الأفراد والمؤسسات، خصوصاً الحكومية منها. ومن أبرز سمات هذه الثقافة ـ إلى جانب نمطها الاستهلاكي ـ تراجع قيم العمل والإنتاج في المجتمع الذي تحول خلال سنوات قليلة إلى مجتمع من المستهلكين الشرهين لكل شيء. وهذه المقالة تهدف إلى تسليط الضوء على هذه الظاهرة لما لتغيير هذه الأنماط الاستهلاكية من أهمية كبيرة في الوقت الحاضر في ظل توجه الدولة إلى تشجيع الاستثمار المنتج والسعي إلى جلب رؤوس الأموال من الخارج في عمليات استثمارية منتجة وفعالة لدعم الاقتصاد الوطني.
النهم الاستهلاكي.. ضرورة أم ضرر
نتيجة للتطورات التقنية المتسارعة التي كانت الدول الصناعية مسرحا لها منذ مطلع القرن الـ 20 تحولت مجتمعات تلك الدول إلى مجتمعات استهلاكية إضافة إلى كونها مجتمعات إنتاجية. ويشكل الاستهلاك عموما المحرك ( أو الدينمو) الذي يبقي المصانع ومواقع الإنتاج والخدمات عاملة، فبدونه تتوقف كل تلك المنشآت وتبدأ في تسريح العمال وترتفع معدلات البطالة ويحصل الانكماش الاقتصادي. ونتيجة لذلك برزت أهمية الترويج للمنتجات الاستهلاكية من منتجات وخدمات لتنشيط الدورة الاقتصادية وتشجيع الناس على الاستهلاك لتحفيز الإنتاج الذي يستفيد منه الجميع. وعلى هذا الأساس يلعب الاستهلاك في مجتمعات الدول الصناعية دوره في حفظ توازن السوق.
وهذا النمط الاستهلاكي الغربي انتقل إلى المملكة والمجتمعات الخليجية وتجذر مع التزايد الكبير في عائداتها النفطية في السبعينيات والثمانينيات والتي أدت بدورها إلى تزايد الإنفاق الحكومي على برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي رفع بشكل ملموس مستوى معيشة الأفراد وأدى إلى ارتفاع معدلات "الإنفاق الاستهلاكي" بشقيه الضروري والكمالي بشكل لافت. وبرزت الإشكالية عندنا من تجاوز معدلات الإنفاق الاستهلاكي لنسبة كبيرة من الأفراد والأسر السعودية للمستويات التي تتيح لهم الاحتفاظ بالقدر اللازم من الادخار، وهذا بدوره له انعكاسات سلبية من المنظور الاقتصادي الكلي تتمثل بالارتباط المباشر للاستثمار في أي مجتمع بمستويات الادخار، فكلما زاد الادخار زاد الاستثمار، وزاد الإنتاج الجديد وبالتالي زاد الدخل الفردي والدخل الإجمالي. وهذه هي الدورة المتكاملة لتحقيق المزيد من الرفاهية والازدهار والتقدم.
ويعد "الإنفاق الاستهلاكي الكمالي" والتبذير غير المنضبط الذي أعقب الطفرات النفطية عبئا على الاقتصاد الوطني لأن هذا الجزء من الإنفاق الاستهلاكي يذهب إلى البلدان التي يتم الاستيراد منها ولا يستفيد منها الاقتصاد الوطني إلا أرباح الوكلاء والمستوردين التي ربما تعود أدراجها لتنمية الاقتصاديات العالمية الأخرى من خلال استثمارات هؤلاء الخارجية.. ونتيجة لذلك أصبحنا مستهلكين مستهدفين من قبل الشركات المتعددة الجنسيات بسبب كون أغلب السلع المطروحة في أسواقنا منتجات مستوردة وليست منتجات وطنية، وهذا يعني أن نقودنا تذهب من جيوبنا إلى خزانات الدول الصناعية. وتأسيسا على ذلك فإن النهم الاستهلاكي في مجتمعنا يشكل ضررا فيما هو ضرورة في المجتمعات الصناعية الغربية. وما يستدعي القلق فعلا هو أن "النهم الاستهلاكي" صار طبعا متجذرا عند الكثيرين منا وهو ما لا يمكن تغييره بسهولة حتى عند تراجع مستويات دخل الأسرة، وهذا غاية ما يتمناه المنتجون في الدول الصناعية في أن نتحول سوقا دائمة ومتنامية لمنتجاتهم.
ظاهرة القروض الشخصية
لتغطية النفقات الباهظة التي يتطلبها "النهم الاستهلاكي" لدى الأسرة ذات الدخل المتوسط برزت في المجتمع السعودي ظاهرة القروض الاستهلاكية أو الشخصية. وهذه الظاهرة أضحت تأخذ شكل الهوس الذي انتشر بالطلب المستمر على القروض الاستهلاكية من البنوك، فلا يكاد القرض ينتهي حتى يبادر صاحبه أو صاحبته إلى تجديده، وعاماً بعد عام تتزايد الفوائد المترتبة على القرض، الأمر الذي قد يقود في بعض الأحيان إلى منزلق خطير لمستقبل الأسرة الاقتصادي ومن ثم استقرارها الاجتماعي.
وكشفت الأرقام المعلنة من مؤسسة النقد العربي السعودي في تقريرها السنوي عام 2008 عن زيادة كبيرة في حجم القروض الاستهلاكية في المملكة بلغت خلال السنوات العشر الماضية 20 ضعفا عن مستواها في عام 1998، حيث كانت تسعة مليارات ريال وزادت إلى أكثر من 182 مليار ريال في نهاية عام 2007 حسبما موضح في جدول ( 1 ). واللافت للنظر هو ما تمثله نسبة القروض الاستهلاكية إلى إجمالي القروض، حيث ارتفعت من 22 في المائة في عام 1998 إلى 32 في المائة في عام 2007 منخفضة قليلا عن مستوياتها القياسية التي بلغت نحو 41 في المائة من إجمالي القروض في عام 2005.
#2#
وهذه النسب المرتفعة مؤشر لمخصصات القروض الاستهلاكية تأتي على حساب مخصصات تمويل المشاريع الإنتاجية التي لا تشكل جاذبية للمصارف التجارية كما هو الحال بالنسبة إلى القروض الاستهلاكية التي تعد البند الأكثر ربحاً للمصارف التجارية.
يشار إلى أن إجمالي القروض الاستهلاكية في عام 2007 بلغ نحو 182.6 مليار ريال موزعة نسبيا كالتالي: 8.6 في المائة قروض عقارية، 20.6 في المائة قروض سيارات، و70.8 في المائة أخرى وتدخل ضمن النسبة الأخيرة القروض والتسهيلات المصرفية لتمويل شراء الأسهم!!
أين يكمن الخلل؟
أدى الاعتماد على النفط في المملكة إلى ضعف الهياكل الإنتاجية الأخرى، وتحديداً في مجال البنية التقنية، والموارد البشرية وكلاهما من أساسيات قيام مجتمع إنتاجي. ويتسم اقتصاد المملكة بكونه اقتصادا ريعيا يمثل "استهلاكا من رأسمال ذي طبيعة ناضبة". ولذا فإن الهيكل القطاعي للناتج المحلي الإجمالي يتميز بارتفاع نسبة مساهمة قطاعات الصناعات الاستخراجية وقطاعات الخدمات، مقارنة بمساهمة قطاعات الإنتاج السلعي الأخرى. ويعكس هذا الوضع اختلالاً في التركيب الهيكلي للاقتصاد السعودي سمته التضخم الواضح في النصيب النسبي لقطاعات الخدمات، مع انخفاض في نصيب القطاعات السلعية، مما يزيد من حاجة المملكة إلى الاعتماد على الاستيراد من الأسواق العالمية لمواجهة الطلب المحلي. ويؤثر الخلل في القاعدة الإنتاجية في المملكة سلباً على اعتمادها على الأسواق الخارجية في استيراد معظم السلع والخدمات اللازمة لسد الحاجات الاستهلاكية والإنتاجية، وتتضح درجة هذا الخلل بتوجيه الموارد نحو الخارج لتوفير السلع الاستهلاكية بدلاً من توجيهها نحو المساهمة في توفير متطلبات عملية التنمية وتحقيق التنوع الإنتاجي. ومن المعلوم أن زيادة الواردات تولد ضغوطاً على احتياطات المملكة من العملات الأجنبية إذ يتم الدفع بالعملات الأجنبية وليس بالعملات المحلية.
ويلاحظ من بيانات جدول رقم ( 2 ) ارتباط حجم فاتورة الواردات بمستويات أسعار النفط، فكلما تحسنت الأسعار تضخمت فاتورة الواردات. وهذا ما تعكسه بيانات التجارة الخارجية للمملكة خلال الفترة 2006 إلى 2008، حيث ارتفعت فاتورة الواردات خلال تلك الفترة من 63.8 مليار دولار إلى 107.3 مليار دولار وبمعدل نمو سنوي يتجاوز 30 في المائة وهو معدل مقارب لنمو قيمة الصادرات. في المقابل تشير التقديرات إلى أن فاتورة الواردات ستستمر في الارتفاع خلال عام 2009 على الرغم من تراجع قيمة صادرات المملكة من 351.9 مليار دولار إلى 205.0 مليار دولار، ما يعني تراجعا كبيرا في الفائض التجاري إلى 70.8 نزولا من مستواه القياسي الذي يقدر بنحو 244.6 مليار دولار في عام 2008.
#3#
من جانب آخر، تؤكد بيانات الصادرات السعودية في عام 2007 المدرجة في جدول رقم (2) على وجود اختلال في التركيب الهيكلي للاقتصاد السعودي سمته التضخم الواضح في النصيب النسبي لقطاع النفط في فاتورة الصادرات، مع تواضع نصيب القطاعات السلعية غير النفطية، حيث بلغت إجمالي قيمة الصادرات 233.4 مليار دولار تشكل الصادرات النفطية والمشتقات النفطية والمعدنية 212.3 مليار دولار أو ما يمثل 91 في المائة من إجمالي قيمة الصادرات السعودية، فيما مثلت قيمة الصادرات المصنعة غير المشتقة من المنتجات النفطية أو المعدنية 21.1 مليار دولار أو ما يعادل 9 في المائة فقط من إجمالي قيمة الصادرات في تلك السنة!
وإضافة إلى ذلك يلاحظ من استعراض التحليل النسبي لأنواع الصادرات السعودية في عام 2006 المدرجة في جدول رقم (3) أن الجزء الأكبر منها (66 في المائة) هو عبارة عن منتجات نصف مصنعة (وتشمل البتروكيماويات الأساسية والمشتقات النفطية المكررة)، فيما بلغت نسبة قيمة المنتجات المصنعة (المنتجات النهائية) 21 في المائة، أما نسبة قيمة الخدمات من فاتورة الصادرات السعودية فبلغت 13 في المائة. والنسبة العالية للمنتجات نصف المصنعة ضمن الصادرات السعودية تعني أن هناك فرصا ضائعة يمكن تحقيقها من خلال تصنيع نسبة أكبر من تلك المنتجات محليا بما يحقق قيمة مضافة أعلى ويوفر فرص عمل أكثر داخل المملكة.
#4#
وإجمالا يمكن القول إن ضعف الهياكل الإنتاجية في الاقتصاد الوطني وارتفاع معدلات السيولة إلى جانب إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية التي ساعدت على انسياب السلع بين الأسواق كانت مجتمعة وراء ارتفاع مستويات استيراد البضائع والسلع إلى المملكة، إضافة إلى أنها أفرزت منافسة قوية في الأسواق المحلية بين المنتجات المستوردة، وبين المنتجات الوطنية التي بدأت تواجه منافسة حادة من قبل المنتجات الأجنبية من حيث الجودة أو السعر.
وسائل الإعلام.. ودورها في شيوع ثقافة الاستهلاك
يلعب الإعلان دورا كبيرا في الترويج للسلع والتعريف بمزاياها ومواصفاتها عبر كل الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة. وتتسم بعض الإعلانات المحلية في معظمها بالمبالغة، في ظل غياب قانون محلي يحمي المستهلك. فهي مثلا تبسط أمر الاقتراض من البنك الذي يملك أموالا يريد تشغيلها. تقول الإعلانات للمستهلك: ما عليك إلا أن توقع لكي تحصل على المبلغ! وبالتالي يتم تحفيز المستهلك على الشراء حتى أولئك الذين لا يملكون المال!
وبطبيعة الحال فوسائل الإعلام تتنافس على استقطاب تلك الإعلانات وإبرازها بصورة جاذبة ومغرية، وهي تفعل ذلك بدافع من سعيها إلى تعظيم أرباحها. لكنها بذلك ساعدت بصورة غير مباشرة على تكريس أنماط الاستهلاك الشره غير المنتج في مجتمعنا. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام تعزز السلوكيات لا تغيرها في المفهوم العلمي، إلا أنها أسهمت في تعزيز سلوكيات استهلاكية في مجتمعنا من خلال الإعلانات المغرية التي تخاطب الغرائز في أغلب الأحيان. ومثل هذا المسلسل من الإعلانات يكرس ثقافة الاستهلاك لدى المواطنين البسطاء وغير البسطاء.. ويغذي ثقافة استهلاكية ضارة تحيد بناء الشخصية الوطنية السوية المنتجة إلى شخصية استهلاكية. ولمواجهة خطورة هذه المشكلة على الاقتصاد السعودي فإن المطلوب من الهيئات الحكومية المختصة بحماية المستهلك القيام بحملات إعلامية تستهدف الحد من القروض الاستهلاكية وتشجيع الادخار لمواجهة متطلبات الحياة بصورة أفضل عن طريق غرس الميول الادخارية والتقليل من الاعتماد على القروض الاستهلاكية. إضافة إلى ذلك ينبغي أن تتبنى غرف التجارة والصناعة القيام بحملات إعلامية تستهدف ترويج المنتجات الوطنية لتشجيع الاستهلاك المحلي للمنتجات الوطنية.
ما المطلوب عمله؟
من المهم استغلال فوائض عائدات النفط في سنوات الطفرة الأخيرة لتحسين الأداء الاقتصادي، فالسجل التاريخي يشير إلى أن الزيادة في حجم السيولة يرافقها في العادة زيادة في النشاط الإقراضي، وبالتالي زيادة في الحركة الاقتصادية. وفي ظل هذه الأوضاع مطلوب إقرار آليات وضوابط لتشجيع الإقراض الاستثماري على حساب الإقراض الاستهلاكي. وهذا الأمر يعد من الأهمية بمكان، إذ يعطي الفرصة للنمو في قطاع الأعمال، ويعني في جانب آخر نقلة نوعية في التعامل مع السيولة المتوافرة من جانب الصرف الاستهلاكي المباشر في أشياء صغيرة مثل تمويل العطلات الصيفية إلى اقتناء الأجهزة والأثاث المستورد، إلى الجانب الإنتاجي الذي يوفر فرصة لتسديد القروض من عائدات المشروع نفسه، بغض النظر عن حجم المشروع أو كونه ينشط في جوانب استهلاكية.
وبموازاة ذلك ينبغي العمل على تهيئة مستلزمات تطوير الصناعات الوطنية وتحسين كفاءة الأداء وجودة المنتجات بما يجعلها قادرة على الوفاء بحاجة السوق المحلية وتقليل حجم الاستيراد لما في ذلك من فوائد اقتصادية مهمة، في مقدمتها إيجاد فرص وظيفية جديدة. وبموازاة ذلك ينبغي العمل وبسرعة على بلورة استراتيجية لتنمية الصادرات السعودية غير النفطية، وإيجاد آليات تطبيقها على الأرض.. على أن تكون تلك الاستراتيجية متسقة مع استراتيجية التنمية الصناعية التي هي في طور الإعداد.
يبقى من المهم التأكيد على حقيقة مفادها أن تحسين الأداء الاقتصادي في المستقبل مرهون بأمور عدة منها محاربة العادات الاستهلاكية السلبية التي استشرت بين المواطنين من جراء الطفرة النفطية وتشجيع وترسيخ ثقافة الادخار لدى المواطن بدلا من نمط "النهم الاستهلاكي" السائد حاليا وإحداث نقلة سريعة لتحل ممارسة وعقلية الإنتاج محل عقلية وممارسة الاستهلاك.