هل الاقتصاد السعودي معرض لأزمة ائتمان محلي؟

الأزمة العالمية الحالية التي لا تزال تستفحل ولا تترك ركنا في الاقتصاد العالمي إلا وتسببت في اختلاله.. وهي في حقيقتها أزمة ائتمان .. أو أزمة خلل في العلاقة بين المقرض والمقترض، وهذه الأزمة تسببت في العديد من الأزمات الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد العالمي خلال القرنين الأخيرين .. وإذا كانت الاقتصادات الغربية قد عانت ويلات هذه الأزمات الائتمانية، وإذا تسعى جاهدة للخروج من شرنقة خسائرها الفادحة، مضحية بضخ مليارات الدولارات لمساعدة القطاعات المالية المتسببة في هذه الأزمات، فإن الاقتصادات العربية وعلى رأسها الاقتصاد السعودي لا تزال تسير في طريق عشوائية العملية الائتمانية حتى رغم رقابة وتوجيهات مؤسسة النقد العربي السعودي.
البعض يعتقد أن الائتمان هو مجرد قروض تقدمها جهات مقرضة إلى أطراف مقترضة، وينتهي الأمر، إلا إن الحقيقة غير ذلك .. فالائتمان هو قلب الأداء الاقتصادي في أي اقتصاد حديث، فضخ السيولة الائتمانية في السوق بمثابة ضخ الدماء في جسم الإنسان .. إلا إن هذا الضخ عندما يزيد عن حده يتسبب في اضطرابات بشكل مشابه عندما ينخفض على حده .. كما أن تعثر مقترض ليس أمرا بالسهولة التي يصفه به البعض .. فالتعثر عندما ينتشر يمكن أن يتسبب في توقف الآلية الائتمانية بالكامل، بل إنه قد يصل إلى حد فقدان الثقة بين مقرض "المقرض" وهم المودعون في البنوك أو المصارف بشكل يقود إلى حالة الركود الذي ربما لا يلبث أن يتحول إلى كساد. لكل ذلك، فإننا نسعى في هذا التقرير إلى استكشاف طبيعة العملية الائتمانية في الاقتصاد السعودي للتأكد من عدم وجود احتمالات لحدوث أزمة ائتمانية مقبلة لا قدر الله..
الأطراف الائتمانية الفاعلة في السوق المحلية:
البعض يعتقد أن البنوك المحلية هي فقط المخولة بالقيام بهذا الدور الائتماني، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فهناك العديد من الأطراف التي تقوم بتقديم الائتمان في السوق المحلي، أبرزها ما يلي:
البنوك المحلية (الراجحي وسامبا وساب وغيرها).
المؤسسات الحكومية الإقراضية المتخصصة (الصندوق السعودي للتنمية، وصندوق التنمية الصناعية، وبنك التسليف والادخار، وصندوق التنمية العقارية، والبنك الزراعي العربي السعودي).
الشركات المتخصصة في إصدار الشيكات أو بطاقات الائتمان (مثل أمريكان إكسبريس).
شركات التمويل العقاري.
شركات التقسيط (العقاري والسيارات وغيرها).
#2#
حجم السوق الائتماني في المملكة
إن السؤال الذي يخطئ الكثيرون في الإجابة عليه، هو: كم حجم سوق الائتمان السعودي؟ يقدر حجم سوق الائتمان السعودي بنحو 935 مليار ريال، منها 79 في المائة تمثل الائتمان المصرفي من البنوك، إلا أن هذه التقديرات ربما لا تمثل الحقيقة كاملة، حيث يوجد هناك أطراف أخرى تمارس عملية الائتمان ولكن تحت ستار شركات بأنشطة أخرى أو ربما يوجد الكثير من الأفراد الذين يجتهدون في تقديم ائتمان بشكل أو بآخر، بدليل كثرة الإعلانات التي انتشرت هنا وهناك "تحمسك" للحصول على تسهيلات للتخلي عن ائتمانك البنكي العادي. لذلك، بشكل وبآخر، فإننا نضع سوق الائتمان المحلي عند تقديرات التريليون ريال. هذا غير ما يزيد على 138 مليار ريال التي قدمتها المؤسسات الإقراضية المتخصصة حتى منتصف 2008.

المخاطر في الائتمان المصرفي
بداية، فإن القروض المقدمة من المؤسسات المتخصصة لا تمثل المخاطرة التي يمكن الاعتداد بها، لأنها تستهدف في الحقيقة تقديم دعم حكومي لشرائح معينة، وبالتالي فإنها تضع لنفسها درجة مخاطرة مقبولة في حالة التعثر .. إلا أن المخاطرة الحقيقية تبدأ بالائتمان المصرفي، حيث وصل حجم الائتمان المقدم من المصارف إلى نحو 739.6 مليار ريال حسب بيانات الربع الثالث من 2008، منها 707.3 مليار للقطاع الخاص، و32.3 مليار للقطاع العام. وإذا كانت نسبة 59 في المائة من الائتمان المقدم للقطاع الخاص معروفة من حيث الهوية الاقتصادية، إما لخدمات أو صناعة أو تشييد أو غيرها، فإن نسبة 41 في المائة منها غير محددة النشاط الاقتصادي، بشكل يثير الجدل حول كيف يترك مثل هذا الرقم الضخم غير محدد النشاط الذي يندرج تحته، وهنا تأتي أول جوانب "اللون الرمادي" في الائتمان المصرفي. ومن جانب آخر، فتصل ودائع البنوك إلى 804.1 مليار ريال، أي أنها تقدم ما يزيد عن 91 في المائة من هذه الودائع في شكل قروض، وهي نسبة عالية حقا.
مخاطر السوق الائتماني:
تنقسم مخاطر السوق الائتماني إلى نوعين: يتمثل النوع الأول في المخاطر التي يضعها على الأنماط الاستهلاكية في المجتمع، وثانيا : المخاطر التي يضعها على الأفراد المقترضين. وأخيرا، المخاطر التي يضعها على الاقتصاد الوطني ككل.
يتمثل النوع الأول في مخاطر تفشي وانتشار سلوكيات وأنماط استهلاكية غير سوية في المجتمع نتيجة شعور الأفراد بوجود قدرات غير محدودة من الاقتراض، وبالتالي، فإن الكثير منهم يسعون إلى اقتراض ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون إليه فعلا .. بشكل يقود إلى مخاطر النوع الثاني، وهو وقوعهم فريسة لرغبات غير ضرورية ومن ثم تعرضهم إلى العديد من المشكلات نتيجة وقوعهم تحت طائلة القانون حال تعثرهم أو عدم مقدرتهم على السداد، هذه المشكلات قد تصل إلى حد التوقيف أو السجن أو إشهار الإفلاس أو غيرها.
أما مصدر الخطورة في الائتمان، فيتمثل في القيود التي يضعها على الثقة بالنظام المصرفي أو الثقة بين المقترضين والمقرضين .. ففتح باب الإقراض دون تقنين، وتقديم الائتمان لمن يستحق ومن لا يستحق أو التسهيل في الإجراءات الائتمانية قد يؤدي إلى زيادة حالات التعثر، والتي -إن تفشت- تقود إلى حالة من العجز لدى بعض المؤسسات الائتمانية عن تقديم المزيد من الائتمان الضروري، والتي قد تصل في مرحلة تالية إلى تعثرها هي ذاتها .. والذي ما إن يظهر حتى يؤدي إلى فقدان ثقة مقرضي هذه المؤسسات أنفسهم فيها، أي فقدان ثقة المودعين، وهذه من أصعب المراحل التي قد تتعرض لها المؤسسات الائتمانية، لأنها إن فقدت ثقة مودعيها، فإنها ستفقد المورد الرئيس لها، وبالتالي فقد يصاب النظام المصرفي بالكامل بالشلل.
ولكن .. من أين تأتي مصادر القلق في السوق الائتماني؟
السوق منقسم إلى طرفين، طرف تحت السيطرة الكاملة من مؤسسة النقد (البنوك) وأطراف أخرى خارج نطاق السيطرة أو - لنقل - لا يخضعون للرقابة الكاملة من المؤسسة. وعلى الرغم من خضوع البنوك للسيطرة التامة لمؤسسة النقد، ورغم أن مؤسسة النقد تتخذ كل ما من شأنه ضبط الائتمان المحلي وتقليص حجم المخاطر في سوقه، إلا أن البنوك أنفسها بدأت تلجأ خلال الآونة الأخيرة إلى استخدام أساليب وسياسات تمكنها من التحايل على الضوابط التي تضعها مؤسسة النقد على الائتمان الفردي أو المؤسساتي. فالبنك عندما يرغب في تقديم ائتمان أعلى من المتاح لجهة / فرد معين، فإنه يلجأ إلى استخدام نظام بطاقات الائتمان مثلا أو نظام ترقية الائتمان داخل فترات معينة أو حتى اللجوء إلى بيع أو شراء الائتمان الممنوح من بنوك أخرى. أكثر من هذا، فإن البنوك أصبحت تتصيد فترات قصيرة جدا تغير فيها مؤسسة النقد السياسة الائتمانية لأهداف عامة، تتخذها البنوك قرينة لتغيير الحدود الائتمانية المقدمة بشكل صارخ، مثلما تفعله كثير من البنوك بالقيام بحملات تسويقية موسعة لتوسيع النطاق الائتماني لدى عملائها خلال فترة قد لا تتجاوز يوما أو يومين.
بالطبع إن هذا التحايل يزيد من المخاطر الائتمانية للبنوك لأن الائتمان الممنوح في هذا السياق يتجه إلى أن يكون أعلى مخاطرة .. فالبنوك تركز في منح الائتمان على السعي للتوافق مع سياسات مؤسسة النقد دونما الحرص في جميع الأحوال على التركيز على دراسة القدرات أو الجدارة الائتمانية للأطراف التي تمنحها ائتمانا جديدا. ورغم كل ذلك، فإن الائتمان البنكي لا يزال أقل مخاطرة مقارنة باللائتمان الممنوح من الأطراف الأخرى في السوق، لأنه يعتمد ضوابط مسؤولة ومراقبة من مؤسسة النقد فيما يخص الضمانات.
ولسوء الحظ أن قدر الائتمان الذي يقع خارج نطاق الائتمان المصرفي يعتبر أعلى مخاطرة من الائتمان المصرفي ذاته .. وخاصة أن الائتمان غير المصرفي لا يتعرض لرقابة صارمة من مؤسسة النقد مثل الائتمان المصرفي .. وبالتالي فإن هذا الجزء يعتبر خارج نطاق السيطرة التامة، ومن ثم فإنه هو المؤهل حقيقة إلى أن يتسبب في أزمة لقدر الله مستقبلا. والدليل في كثرة وانتشار قضايا التعثر لدى شركات التقسيط أو التمويل أو شركات السيارات أو قضايا الشيكات بدون رصيد وغيرها.
إن لسان الحال ليدرك أنه إذا استمر هذا الوضع على ما هو عليه، فقد تظهر أزمة حقيقية في السوق الائتماني نتيجة كثرة وعشوائية الأطراف العاملة في السوق، التي كثير منها أصبح لا يأخذ بالضوابط المطلوبة في تقديم الائتمان .. لا ينبغي علينا التعويل على رشد المقترض "المستهلك" ولكن ينبغي علينا التعويل على رشد المقرض "الذي أصبح متعدد الأشكال". وإذا كان هذا الأمر مهما على الدوام، فإنه يصبح ضروريا وإلزاميا في فترة يمر فيها الاقتصاد العالمي بأقوى أزمة ائتمان في تاريخه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي