مستقبل الاقتصاد السعودي في ظل الأزمة المالية

هناك حقائق وهناك مشكلات، الحقائق تستدعي التعامل معها للاستفادة من فرصها وتجنب مخاطرها بينما المشاكل تستدعي المعالجة، ومن المعلوم أن الدورات الاقتصادية حقيقة يجب التعامل معها بعقلانية بالغة دون خوف أو وجل فكل انتعاش يتبعه انكماش، وكل فقاعة مضاربية لابد وأن تنفجر، ولاشك أن هذه الحقيقية تتحول إلى مشكلة كبيرة إذا أسأنا التعامل معها باستهلاك كافة إيرادات فترة الانتعاش في وقتها دون التحوط لفترة الانكماش، أو إذا بخلنا أو تأخرنا في توظيف مدخراتنا وقت الانتعاش لتجاوز فترة الانكماش التي تولد فرصا كما تولد المخاطر.
ومن المعلوم أيضا أن هناك عناصر كثيرة تخلق الانتعاش والانكماش من أهمها الابتكار الذي يحرك الدورات الاقتصادية بقوة وبسرعة لتدخل في فترات انتعاش، حيث ترتفع قيمة الأصول الرأسمالية بشكل كبير ومفاجئ في أي بيئة اقتصادية تتمتع بأسعار فائدة متدنية في الأجل الطويل، وتعيش استقرارا اقتصاديا بمعدلات تضخم منخفضة لتشكل فقاعات في كل أو بعض الأسواق حيث تروج المضاربات (فقاعة شركات الدوت كوم مثالا)، وهذه الفقاعات لابد لها أن تنفجر ليدخل الاقتصاد فترة الانكماش، أي أن مسببات الانتعاش هي ذاتها مسببات الانكماش والابتكار أهم تلك المسببات، وعلينا أن نقر بأن الابتكار والانتعاش والانكماش جزء من النظام الرأسمالي.
الإدارة الحصيفة هي تلك الإدارة التي تفرح وقت الانتعاش وتستثمر معطيات هذه الفترة في تحقيق الأهداف التنموية الشاملة والمستدامة كما تحسب حساب الانكماش ولا تتضايق منه, لأنها تدرك أن كل انتعاش يتبعه انكماش يتناسب وفترة الانتعاش طرديا، لذلك تجدها جاهزة بخطط مدروسة تتخذ على أساسها إجراءات سريعة لاجتياز فترة الانكماش بسلام وأمان، ولاشك أن الإدارة ذات الخبرات المتراكمة في التعامل مع الدورات الاقتصادية ستكون أكثر قدرة على التعامل مع فترات الانكماش والتخفيف من آثارها في الاقتصاد الوطني ومكوناته.
كلنا ثقة بحكمة حكومة خادم الحرمين الشريفين التي شرعت في تنفيذ مشاريع تنموية عملاقة وقت الانتعاش من أجل الوطن والمواطن، كما عملت على توفير مدخرات كبيرة تعزز قوتها لمواجهة فترة الانكماش المتوقعة (استثمار معطيات السبع السمان لمواجهة السبع العجاف )، والتي وقعت في السوق المالية نتيجة ابتكار الكثير من المنتجات التمويلية (المشتقات) التي أدت لانتعاش الأسواق المالية (التداولات فاقت تريليونين يوميا) حتى شكلت أعظم الفقاعات التي انفجرت معلنة بداية العاصفة المالية الحالية.
ما القرارات المتوقع أن تتخذها حكومتنا الرشيدة لاجتياز فترة الانكماش الحالية الأشد قسوة على اعتبار أنها وقعت في النظام المالي (أكسجين الحياة لكافة القطاعات الاقتصادية)؟ كيف ستوظف المدخرات التوظيف الأمثل لتؤتي ثمارها بأسرع وقت للخروج من فترة الانكماش وتجاوزها بأقل الأضرار؟ وما المتوقع من بقية اللاعبين في اقتصادنا الوطني (المؤسسات المالية، الشركات، الأفراد)؟ وما مستقبل الاقتصاد السعودي في حال اتخذت الحكومة أفضل القرارات المحتملة ؟ أسئلة تحتاج إلى تفصيل قبل الإجابة عنها.
من المعروف أنه بعد أن كانت الحكومة قبل عقد التسعينيات من القرن العشرين المُنفِق والمُوظِف الأكبر، حيث كانت الأكثر إنفاقا واستيعابا للعمالة أصبحت المُنفِق الأكبر فقط بينما أصبح القطاع الخاص المُوظِف الأكبر فلدينا حاليا نحو أكثر من 3.75 مليون موظف في القطاعين الحكومي والخاص منهم نحو 800 ألف يعملون في الأجهزة الحكومية ونحو 300 ألف موظف في المؤسسات شبه الحكومية مثل "أرامكو"، الموانئ، "سابك"، الكهرباء بينما يعمل نحو 2.6 مليون موظف في القطاع الخاص الخالص.
هذا يشير إلى ضرورة تنمية شركات القطاع الخاص لتوسيع أنشطتها الاقتصادية حتى تبقى قادرة على استيعاب القوى العاملة الحالية والقادمة من ناحية, خصوصا إذا علمنا أن لدينا حاليا نحو 400 ألف مواطن عاطل (ذكورا وإناثا) ولدينا معدل نمو سكاني عال جدا، ولتكون الشركات قادرة أيضا على توليد وظائف ذات مردود عالي تعزز نسبة الطبقة المتوسطة وتمنع تآكلها من ناحية أخرى خصوصا إذا علمنا أن نحو 60 في المائة من العاملين حاليا في القطاع الخاص رواتبهم نحو ألفي ريال، وهي رواتب تدفع بهم إلى الطبقة الفقيرة.
القطاع الخاص لا يستطيع الاستمرارية والنمو دون تمويل وإلا انكمش وسرح جزء كبير من موظفيه وقلص رواتب الباقين لمواجهة تحديات الأزمة، وهو ما يستدعي أن تتحرك المؤسسات المالية المحلية لتمويله، لكن المؤسسات المالية المحلية التي كانت تفي بنحو 30 في المائة من التمويل المطلوب (حجم القروض الحالية ترليون ريال 300 مليون من البنوك المحلية، 700 مليون من البنوك الخارجية) لا تستطيع الإقراض نتيجة شح السيولة ولكونها وصلت لحدها التمويلي الأعلى (نحو 85 في المائة من المدخرات)، أما المؤسسات المالية الخارجية فلن توفر نسبة 70 في المائة التي كانت توفرها سابقا لشح السيولة لديها أيضا.
إذا لم تتدخل الحكومة لتوظيف المدخرات لدعم المؤسسات المالية المحلية لتمويل الأنشطة الاقتصادية المحلية ستقلص الشركات أنشطتها الاقتصادية وسيكون لدينا تباطؤ اقتصادي مقرون بنمو طالبي العمل يؤدي إلى كارثة حيث من المتوقع أن تصل البطالة حسب البيانات المقدرة في ظروف الانتعاش السابقة إلى مليوني عاطل سعودي بحلول عام 2020، فما بالنا إذا دخل الاقتصاد السعودي في فترة انكماش وركود، لاشك أننا بحاجة إلى اقتصاد ينمو بشكل مستمر لمواجهة هذه التحديات لاستيعاب العمالة الوطنية الحالية والقادمة.
الحل واضح وأعتقد أن الحكومة شرعت أو ستشرع قريبا في تطبيقه وهو دعم المؤسسات المالية المحلية بما لديها من مدخرات دون النظر لأسعار النفط لتكون مؤسساتنا المالية قادرة على توفير التمويل اللازم كاملا دون الحاجة إلى تمويل خارجي لشركات القطاع الخاص للتوسع في أنشطتها لتحقيق الأهداف التنموية، ولتكون قادرة على استيعاب العمالة الوطنية برواتب مجزية ولتسهم تنويع مصادر الدخل الوطني لتجنب الاعتماد على النفط متذبذب الأسعار كمصدر رئيسي للدخل.
وما أتوقعه في حال اتخاذ الحكومة مثل هذه القرارات بالسرعة المناسبة لتتمكن البنوك من توفير التمويل اللازم محليا دون الحاجة إلى المؤسسات الخارجية المحجمة عن التمويل لأسباب الانكماش أن تدور العجلة الاقتصادية بكفاءة عالية ونتجنب الركود الاقتصادي وآثاره وأن يكون لدينا معدل نمو أكثر من 2.5 في المائة عام 2009، وكلنا ثقة بحكمة حكومة خادم الحرمين الشريفين التي لن تألو جهدا في ابتكار الحلول العلاجية لتجاوز هذه الأزمة المالية الخطيرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي